وجهة نظر مغاربية
حول المجموعة القصصية (العدو بالأيدي)
للروائي والقاص السعودي ناصر سالم الجاسم
بقلم: د. عبد القادر بن الحاج نصر/ تونس
أمامي نصوص سردية إبداعية متجانسة شكلاً مختلفة مضامینها، تنفتح على عوالم شديدة الخصوصية تعبّر عنها شخصيات ذات ملامح مميزة، حين نتمعن فيها تبدو كأنها مرسومة بريشة رسام محترف يستخدم جيداً الخطوط والألوان.
المبدع ناصر سالم الجاسم يرسم بالقلم نصوصاً معبرة عن نماذج من الناس يمكن أن نلتقيهم في أي مكان نمر به، ويمكن أن يكونوا بيننا نتحدث إليهم ويتحدثون إلينا دون أن ندرك ما يدور في أعماق نفوسهم ودون أن نحدد مواقفهم من المحيط والمجتمع والأهل والجيران.
لكن ناصر سالم الجاسم يتوفق بقدرة فنان موهوب وبتجربة حرفيّ متمكّن من الغوص في أعماق النفوس ونبض القلوب وأحاسيس الوجدان، فيقدم لنا باطن هذه الشخصيات التي لا يستطيع القارئ إلا الوقوف على ظاهرها.
مجموعة قصص لكل قصة منها شخصية متميزة، وهمٌّ خاص وحلم وغاية يسعى إليها.
ماذا فعل المبدع ليأخذنا في رحلة اكتشاف مغرية في عالم شخصیاتٍ ابتدعها وهي تمّثل نماذج من واقعنا الذي نعيشه دون أن ننتبه إلى ما بيننا وبينها من اختلاف وهموم وصراعات.
نلمس هذا الاختلاف وهذا التميز من خلال العناصر التالية:
• الحوار
• الوصف
• الحركة (تنقل الشخصيات هنا وهناك)
• المكان
سوف نستعرض من خلال قصص المجموعة دلائل حية على الاختلاف والتميز الذي أشرنا إليه.
1- الحوار
في قصة "عيون الإثم" التي تتصدر المجموعة حوار يحدد الميزة التي تحملها الشخصية والتي تجعل منها مختلفة عن الآخرين.. تطرح القصة موضوعَ ما يمكن أن نسميه بالمرض النفسي لدى البعض وهو السعي الحرام إلى التخلص من الزوجة، أو الأحرى استبدال زوجة بأخرى والأخرى بغيرها، فإن تعذر السراح بالتراضي فالكيد هو أضمن طريقة وإن كانت هي الطريقة الأبشع أخلاقياً؛ لأن استبدال زوجة بأخرى أو بسلسلة من الأخريات إرضاء للنفس والرغبة الجنسية يطرح قضايا اجتماعية معقدة من أهمها مصير الأبناء والعلاقة مع الأصهار.
إن الشخصية في هذه القصة تجد لفعلها مبررات واهية، لكن تتمسك بها كذريعة لتحقيق الرغبة الدفينة وإن كانت دنيئة ومسيئة إلى الأقربية.
لنرَ كيف تحاور الشخصية نفسها أو مع شخصية ثانية غيرمعلنة لتبرر فعلها:
- والذرية!
- ستكون ذكرى مشوهة ونسبا مريعاً.
- والأصهار؟
- أنت في غنى عنهم.
- و النقود؟
- الرجل هو الذي يصنعها.
- والتعويض؟
- حواء تمتلئ بها الأرض. (ص 19)
إن التسريح في إطار التعدي على الأخلاق والأعراف هو الحل الجذري حتى وهو يتم بأبشع وسيلة وهي(الكيد)، وهو حل آني لعقدة المريض الباحث عن السياحة بين النساء.
إن تبرير هذا التصرف يأتي في ما يمكن أن نسميه حواراً داخلياً:
«إياك .. إياك .. فالدود يُسقط النخلة المعطاء وهي عشق الفلاح الأزلي وينساها.. والإثم يسقط المرأة الجميلة وستنساها» (ص10).
2- الوصف
لا أعتقد أن أحداً يطالع هذه القصص ولا تأخذه الدهشة لتقنيات الوصف التي استعملها ناصر سالم الجاسم.
إنها خاصية من خاصيات هذا المبدع.. أما عملية الوصف الدقيق للملامح والموجودات والمحيط فهي ليست خاصة بقصة واحدة بل هي تقنيات معتمدة في كل قصص المجموعة.
لنستعرض هذا الوصف الذي تضمنته الفقرة الأولى من قصة «عواء الجان».
"أحسست بريح هوجاء تعوي في صدري وتجرف قلبي معها ..".
"هل هي الآن مراوح الياس تلفح وجهي بهوائها المضمخ برائحة الجيف المحروقة...".
"لا ملامة على فاقد القواطع حين يأبي أكل اللحم.. الشفاه لا تنطبق إلا على العظام والفم لا يفتح إلا للزفرات...» (ص 59).
بين كلمة وأخرى، بين جملة وأخرى نتبين من سیاق السرد أن الكاتب يبدع في الوصف، وصف العالم الخارجي(المحیط) ووصف العالم الداخلي (حركة النفس).
3- الحركة
نقصد بالحركة تنقل الشخصيات في الزمان والمكان، وسمة هذه الحركة التي يصفها لنا الكاتب هي السرعة الفائقة دون أن يحدث لدى القارئ انقطاع في المشهد والصورة، بل إنها تشدّه إلى حدّ اللهاث وراء اكتشاف المشاهد المتتالية مشهداً وراء آخر.
"هرول منفرج الساقين واضعاً يده اليسرى على بطنه، وقطرات تبلل ثوبه المشقوق وترسم خطى متقطعة خلفه.."
"قصد بيتاً مشرّعاً باب مجلسه، دخل حمام زاره من قبل خمس سنوات.. خرج من الحمام إلى الشارع.. حوقل من كان في المجلس.." (ص31).
إن حركة الشخصية "التنقل في المكان" تضع القارئ أمام شريط من الصور والمشاهد وهي عملية فنية لا تترك الممل يتسرب إلى القارئ.
4- المكان
للمكان وظيفة دلالية في قصص المجموعة فتناول الأمكنة بالدقة الفنية الذي يشبه الرسم تعتبر إضافات للقصة شكلاً ومعنى.. يكفي هنا أن نسوق المثال التالي الذي تضمنته قصة "العدو بالأيدي" (ص21).
"لمعت في ذهنه فكرة التمرغ على الرخام.. عرّى الغرفة من السجاد والأثاث، عرى نفيه من ثيابها..".
"انبسط على الرخام كسلحفاة نهرية.. تخيل نفسه من طيور الماء.. آه ما أجمل السباحة على الرخام" (ص21- 22).
"عاد يسبح على الرخام.. ضرب بقبضة يده قطعة رخام محتجاً" (ص22).
من خلال السباحة على مربع رخامي، يقدّم لنا ناصر سالم الجاسم عبر جمل قصيرة ملامح الشخصية نفسياً وفكرياً واجتماعياً.. إنه يعرّيها من الداخل ليكشف لنا عن همومها ومعاناتها وأحلامها وإحباطاتها، ثم يصف الحلم المشروع وغير المشروع بالعجز أو بالقدرة المحدودة على الإنجاز، أي إنه يقدّم شخصية محدد الملامح ليستعرض من خلالها هموم ومعاناة الإنسان بصفة عامة.. الحلم والعجز.. الحلم الذي لا يتحقق لكنه يولد من رماده ليحرّك الشخصية حتى تقوم بعملية البناء على الأنقاض، ومهما كان حجم المأساة وحجم العجز الذي يصيب الإنسان فإن عملية البناء تحتّم السير دون توقف والسعي باستمرار من أجل الإنجاز والنهوض بعد العثور والمواجهة بعد الهزيمة.
إن شخصيات هذه المجموعة القصصية تمثّل الإنسان في توقه الدائم إلى تغيير المحيط واستبداله بمحيط جديد عبر الصراع والتحدي مما يلفت الانتباه- بالإضافة إلى ما ذكرنا- بعضه لا كلّه- القدرة الكبيرة على توليد العبارات في شكل رسائل بأسلوب تلغرافي برقي يأخذ القارئ أخذاً.
المصدر: كتاب وجهة نظر مغاربية حول إبداعات سعودية، منشورات نادي الحدود الشمالية الأدبي بالتعاون مع دار الانتشار العربي - 2021م - ص 29- 30- 31- 32- 33
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق
I am happy to read your opinion or suggestions