من سراديب الكلام والجنون.. إلى شفافية اللغة ودلالة المكان المعلوم
مداخلة في (نص..) المبدع ناصر سالم الجاسم (1-2) و (2-2)
المصدر: صحيفة الجزيرة، العدد 9768 الأحد 13 ربيع الأول 14420 هـ 27/ يونيو/ 1999م. والعدد 9775، 20 ربيع الأول 1420هـ/ 4 يوليو 1999م.
أحمد الدويحي
قلبت مراراً بين يدي المجموعة القصصية "النوم في الماء" بحذر، أمعن النظر في لوحة غلافها (كولاج)، وسيرة كاتبها الذاتية، و"الموت على الماء" للمبدع عبد العزيز مشري تتبادر إلى ذهني، والربط والتداعي العفوي بين الموت والنوم، أقلّب على عجل صفحاتها، أدلف متأملاً مقاطع من نصوص المجموعة، أدرك أني أمام نص يحتاج للتهيئة، ووقت كاف يليق للاحتفاء به، ومتعة قراءتها لفرادتها وتميزها وجدة نصوصها وعمقها، والإثارة التي تلمح بأنه واحد من أسرة المحراث النجباء.. وبدون حدود نحيته شهوراً دون رغبة واضحة للاقتراب منه.
وظل هذا النص يشاغلني عن اهتمامات ثقافية أخرى، وغير ثقافية، وظل الحذر يلازمني فيها، وكأن شخوصها (جن) يطلون برؤوسهم ويشاغبون.. بكل الحيل حتى قبل قراءتها.
وتلك وربي سمة وديدن النضج والبهاء الفني الأدبي، اقتربت منها وازداد نبضي وخوفي.. سأنام في الماء إلى جوار صاحب التجربة (ناصر سالم الجاسم) وشخوصه بدون أدوات وأسلحة وحيل للمواجهة مع نص يرفض القوالب الجاهزة والأساليب الرتيبة واللغة السائبة والرؤية الناقصة.
نص قصصي مغامر متفرد غرائبي حد الدهشة.. والسؤال في نفسي وقد أضمرت بأن لابد من تطويقه بعناصر القصة الضرورية، ذي رغبة تقصي الدلالة الجمالية ليفضي كل عنصر بيقين (المكان- الشخوص- اللغة- الحدث- الزمان- ومستوى القص..).
فأولاً المكان: في القصة الأولى (موت القصائد) نعلم بلغة (الراوي) بأن الرسام الذي اكتشف بصمة حذاء أنثى مطبوعة على لحم صدره وحملت (بصمة) الحذاء اسم البلد الذي صنع فيه.. كان يرسم:
"على ربوة أمامه، وجماعة النمل تجر هيكل يعسوب جميل الجناحين إلى جحورها الضائعة بين الأعشاب الرطبة، ومهرة تسوط بذيلها حشرات تتغذى من روث أخضر صُبِغ به ردفاها.." ص11
وتذكر موعداً في النبع مع صديقه الشاعر وانطلق إليه بسيارته التي أوقفها على "حافة النبع ففرّ جميع السابحين- هلعين- ما بين عار ومستور إلا صديقي الشاعر ظل كعادته يكتب قصائده على الماء"، ليستخرج من قاع النهر حذاء الأنثى التي بصمت على صدره فيما كان صديقه الشاعر يمسح قصيدة من على الماء..
وفي قصة (ثلاثة مسالك لمعلمة السعي) تتضح بصمة المكان في النص الإبداعي المشبع برائحة الأرض:
"أنزلتها من على ذراعي.. انطرحت أمامي ثلاث دعوات للسفر.."، "النساء لا يعرفن التنبؤ إلا بما في بطونهن- اتركوهن للحمل والولادة"، "ستأكلون التراب إذا شحّ الماء".. وفي هذا خطاب إبداعي لمجتمع يحظى بخاصية المكان.. وسجل يومي لحالات السفر والغياب.. والارتباط بالأرض المعطاء.. وعفوية الحياة وجمالها، فالطبيعة الجميلة تترك بصمتها في أبنائها.. والحيلة في التعامل مع قانونها بين الرجل والمرأة والأرض والماء..
وفي قصة (تغريدة الوهج) يختصر الكاتب الزمان بتكثيف لغوي سردي.. وبذاكرة جماعية لحوادث الليل ودماء الموتى وحوار (المذيعة).. ولحس النار والابتسام، وزيارة المقبرة حتى كركر جهاز اللاسلكي في فم قائد الدورية:
" حول: السيارة البيضاء رقم.. وموديل.. وُجدت عند المقبرة التي لم يكتمل بناؤها.." ص22
وما الحالة في قصة الحامل (الملف السري لرصاصة) إلا تنامٍ واعٍ لنص سابق.. شكّل أرضية الاحتشاد والاحتقان والتجربة في هذا النص.. من حقائب السفر، والأرصفة تتحرك تحت قدميه.. إلى مدن الموت التي تشتهي مدناً أخرى.. والميتين الذي يعانقون ميتين.. كلها أجواء مهد لها الكاتب بدراية تامة في شخوض أخرى بذات الأجواء.
"كنت أكتب بصوت مسموع، وأطوي الصفحات بسرعة.. وأحس بالرصاصات تثقب الورق وتقتل علامات الاستفهام والتعجب.. وألتفتُ ورائي.. أقوم من كرسي الكتابة وأتأكد من إحكامي غلق الباب.." ص24.
في هذا التحول المبدع والتجول بين الفرد والجماعة والخاص والعام يرفعنا النص إلى مستوى (عندما تضيق العبارة تتسع الرؤية..) وأحسب أن الإبداع ورطة جميلة لا مناص منها ولا فكاك.. قد تتغير معالم ومسميات أمكنة.. وقد تتشابه.. وفي كل الأحوال لا تخفي دلالتها:
"بدأت أكتب الرقم ومؤشر اللحظة يقول إنني سأسقط على المرحاض.. عدت أجلس تحت الماء أبكي وأعدّ.. الرقم الذي انتهيت إليه يغطي شفتي السفلى مساحة.." ص26.
وهي ذاتها تلك طريقة (عنون) واحد من شخوص النص، يفتح قناة الري وينام في أرضه حتى يصل الماء إلى فمه وأنفه لأن حشرة الخوف التي في دمه أصغر..
وبذات السوداوية نتخبط في قصة (احتفالات نمل الجبل والغربان) وقل إن شئت والذئاب والعقارب والضبان كالعادة رغبة في الخلاص، فذكور الغربان تقدم الجيف مهراً لإناثها.. من أجل ذلك رضيت بالنوم والموت في الماء تحت الجبل.. وصورة الأنثى التي أتعبت رائحتها (ذعار) في قصة (يباب البيدر الآخر) وجعلته يموت مرات كثيرة من أجل أنثى معطرة ويكتب قصائد الموت في المطارات والفنادق الكئيبة وحيداً.. وقد اختار السفر دون أن يجد بيدراً يقاسمه الموت و:
"بيدر لم يذق طعم الماء يا ذعار أحسن حالاً من بيدر شرب السم مع الماء.." ص34.
ولابد- هنا- من الإشارة الدقيقة بأن النموذج (الرمز) الأنثوي سوريالي يرسم للتعبير وبناء الأسلوب وتدرك قيمته بالحدس.. وهذه واحدة من جماليات النص.. والتي ستأخذ جانباً مهماً من اهتمامي بقراءة هذا الإبداع المتفرد، وهذا يتضح أيضاً في القصة التالية:
"لم تمهلني الريح لحظة أمسح فيه العفر اللاصق بشفتي أو أنفض رأسي أو أجرب فيها اللهاث واقفاً" ص37
لأن الأنثى التي يحلم بها ما زالت تحلم بدورها.. نائمة قبل ن تقتلعها الريح بمطرها إلى الجنوب.. وقصة (العفر) حالة مفرعة بالتهمش والتشيؤ لا يثبت عمقها تنادي بالمطر والوحل والعفر.. والخوف لا يموت.. ما دام في الوجود أنثى وعشب أخضر.. وما تأتأة وخفقان قلب (مالك) في نص (تأتأة الخفقة) بسبب قصيدة غزل تلاها معلم اللغة العربية لطلابه وهو يبكي ويكتب وصيته "أنثى المعلم التي لم تحمل تمشي بكعبها على العشب الأخضر"، والخفقان خالد خلود الإنسان وميت بموته.. والموت الذي يظن كل الراقدين في المستشفى أنه يحبو تحت أسرتهم جعل بطل قصة (التكسرات) في صورة أخرى متجددة من الموت للأبطال السابقين.. يسائل أنثاه بحقنة توقف تكسر القوافي على أوراقه:
" هل كتبوا في ملفي أنه يعاني من تكسر في الدم والشعر والحظ والحب؟!.. إن لم يكتبوا كل ذلك اكتبي عنهم واكتبي تاريخ لقائي بك في عنبر الموت" ص47.
وفي نص (اهتزاز العطر) يفصح عن رؤيته وحكمته ولغته وأنثاه.. وقد سمع من الآباء حكمتهم: "إذا رقصت العذراء خُطبت وإذا رقصت المطلقة لعنت".. ولأنه يريد أن يختط ذاته وعالمه.. ولا يريد التشبه بالنساء ولن يتمكن من دخول بيت الرقص كرجل متخف والأنثى الأسطورة (الرمز) التي تخرج من الماء ومن تهويمات النص نجدها الآن حبيسة جدران.. ورجلها لا يستطيع حمل سيف الرقص ولا العصا العمانية وليس برجل حرب ولم يعد إلا للحب والكرم.. لذا فإن رقص أنثاه العذراء يوجعه وهي ترقص في داخل بيت الرقص وتخض دمه في الخارج.. وتنهك قواه ورجليه التي تفرغ الخوف على الاسفلت:
"ارحمي أكف حاملات الدف من رقصك، فأياديهن ساخنة سخونة أجساد المرضى.." ص49.
وقد يكون تشيؤ الأنثى حيلة وألعاباً لغوية غاية في الخداع ليوهمنا النص بمسارات أخرى وليس للتضليل، ونص يتماوج بين الحلم والحلم أعلى بكثير من قدرة استيعاب متلق عادي.. مع أن لهذه الحيل ضرورات فنية وليس مجرد استعراض لغوي صِرفٍ يطوّعه القاص ليضعنا أمام حالة بذاتها.. وضرورة الفن علمتنا كيفية توظيف الحالة أو أي عنصر آخر لخدمة النص والاتكاء على حالات القبح والقسوة كحالة حسية وصفية، ضرورة فنية تمليها، والكاتب بارع في التوطئة والتدجين إلى حدّ الوله والخوف والحذر.. خصوصاً إذا أيقنا أن النص فوق تجزئته ليستوعب نبض أكثر من حالة ممتدة وحدث نام.
وتتحرك هضاب ضبابية على طريق السيارات لتطمس معالمه وتجعل الموت يندّس في كل مكان في حالة (لوحة صباح ضبابي) أي أنه يوقعنا في ذات الحالة ويفصح عن تلك الرائحة، وقد حجبها لذات الضرورة الفنية، فـ "تراك" الشخصية المحورية في النص المغرم بشفاه أنثاه يسافر إلى بلد آخر في خمس دقائق ويعود:
"أجبرني على ملء غرفتنا برسومات شفاه حتى يستطيع النوم على رؤيتها.. ويوقظني من النوم ويساومني، إما أن أرسم أو يسافر، فأوثر بقاءه معي وأرسم..." ص 54.
فحالات السفر المتكرر لها دلالتها وتوظيفها المجتز من روح الحالة لذاتها الموحية التي في ثنايا النص كحالة سفر، والسفر في المطلق حالة اغتراب نتدرجُ في استشعاره من (الصورة المقلوبة، الهاجس، الرنين، صدى النفس، الحنين، لحظة ما بين الحلم والحلم) ولا بأس بلحظة تأمل نمسك بها كاللحظة التي مرّت بنا حينما يوقظه "تراك" يرسم له شفاه أنثاه وكأن ليس من فواجع غير موت لحمه، وموت اللحم غير كاف لإيقاظه.
وفي النص الواعي لا يأخذنا إلى المراد كما قلت من قبل، حتى لو تغيرت مسميات الشخصيات والأمكنة والسمات، فهذا "فيحان" في قصة (اكتئاب الدماء) ينمو بالنص في القصة التي مرت بنا (لوحة صباح ضبابي) حينما يوقظه ليرسم شفاه أنثاه يتبادل الدور مع "تراك" والأسئلة قد كبرت وكثرت يا فيحان واللحم الميت غير قادر على تلبية الحاجة وكتابة الأسئلة وضرب الأنف في الجدار، ضرب الوجه، ولأن الخشم هو البارز في الوجه فلابد أن تصيبه.. والصراخ في (اكتئاب الدماء) مبرر كحالة. وحرقة مثقف يجد في ترتيل أنثاه لقصيدة شعر، هي ذات الصورة في قصة مرت من قبل، وإشارات أخرى في قصص أخرى للمعاناة ذاتها.. التي تبحث عن فكرة الخلاص، وإنقاذ الدم المكتئب والمتكسر بالاستماع إلى قصيدة شعر بصوت أنثى.
وقد تبدو لمتلقٍ عادي أنها رغبات وتهويمات فنتازية، لكنها صرخة وفاجعة حقيقية مدوية ومباشرة تنبثق من داخل النص المتنامي في صورة الأنثى التي تتشكل من الأسطورة إلى الخيال إلى إيقاع رقص في قصور الرقص إلى نبض في قصائد ولوحات الفنانين، وفي هذا النص:
"إنها مختلفة عن كل الإناث، فهي تميت اللحم، وهنّ يمتن القلب ويتسببن في موت العقل، فيحان.. استيقظ.. فقد بدأتُ أجيب عن الأسئلة.." ص59.
ويظل عصياً وغالياً من يتلفع بالأسئلة والنسيان وعناقيد الخوف والحلم والجنون والشعر.. يكون مهما تجمل واستطالت لغيره قامة.. تسامى خارج التأطير والتنظير.. فالمكان الحقيقي- هنا- في هذا النص (عقول وقلوب) المثقفين.. فمن يرقص للحب(!!) كزوربا اليوناني الصامت.. يعجز عن حمل سيف وعصا عمانية ليرقص..(؟).
المبدع المتجاوز (أبيت إلا أن أعود..) يدخل متلقيه تجربة "عرس الجن" ويقلبه معه في كل حالة، ولا يبقى منه إلا أطلال ذلك المعنى أنه لا يسجل اليومي والمعيش والعادي، ويقدم الأسطورة الموحية بالحكي والسماع، إنه يستخرج درتها وجوهرتها ويفلسفها بروح العصر، بالفن وبالحياة إلى أن نغرق معه في حالة من حالات التداعي المضني، وقد مَلأنا بالحكمة والوهج والليل والجرح والدم والشعر والتبغ المؤذي الذي لا بديل عنه..
وما أشقى الذهن إذا تحركت الصور، حين يرقصون ويغنون يحيون أعراسهم بين مقبرة عتيقة (صارت عتيقة هنا!!) ومستنقع، فئة ترقص وتغني، وفئة تعيق، وحمار يدعوه ليركبه لحضور عرس الجن قبل أن ينتهي.. هذا التوظيف للأسطورة واستثمار المخيلة الشعبية ضرب واع، ودلالة لاستحضار هائل، وقدرة في الإمساك بتلابيب النص وتطويعه (أو ليس هذا الفن خيارا!!) وفجأة راغ الحمار كالملدوغ:
"حططت قدمي على اليابسة وانتقل العرس والنار وراء المستنقع وعاد الحمار إلى الماء.. رقصت على اليابسة، والرقص بالجرح قاتل جداً" ص63.
والمبدع المتفرد بهذا التوصيف يستطيع أن يغترف من التراكم الثقافي ودحرجة كم هائل من الأساطير كما في كتاب (ابن اياس وفلسفة سيد القمني) وغيرهما ممن غرقوا في تقديم الأسطورة في تراثنا ومخيلتنا الشعبية مثلاً أو كأولئك السذج.. فيأبى إلا أن تكون له خصوصيته (لماذا أخرج؟) في حالة ثقافية حادة (!!).
تختزل النصوص بذات اللغة الشعرية الموحية حيناً والمباشرة المستشفة حيناً.. تكمد وتوجع وتجرح وتجسد ممسكة بتنامي حدث في تكثيف مبدع له بصمته بين الحلم والحلم، بين القلب وأنثاه التي خرجت من الأسطورة والماء إلى صورة لوحة وجسد وقصيدة وصدر كتاب.. الأنثى التي لم تسمَّ بعد.. بين العقل والجنون، الجنون اللذيذ (!!).
جنون النفس يشوه الوجه وجنون العقل يشوه الجسد كله (ظل الجنون) الموحي في مستنقعات وبيوت نمل، وفنادق كئيبة، وجحور ضب ومصحات.. شاعر ورسام وفيلسوف ومجنون وظله في (قلب الصحراء) وقد ثبت الآن ظله (الصورة) وقال لظله: "عقيل سمى هذا العام عام الجنون..)!! وعقيل الشخصية التي تجسد الحالة في هذا النص.. المشغول بإجراء بحث عن تأثير الجنون على سلامة اللغة.. بعد التشبع بحالات الجزع والخوف والمرض والعذاب والجرح والدم والجنون على جسد النص كاملاً، لنجد ذواتنا وأرواحنا في ذات التجربة، الحالة التي يكفي نص واحد منها، فجرعته ورؤيته وفلسفته وحضوره تكفي لطغيان حالة التشبع بروح النص، بنفس أجوائه وأحيائه من بشر وجن وحيوانات وكل من يدب على الأرض.. أو في حيوان آخر يقفز ويطوي الزمن لحظة، هذه اللحظة التي يمتعنا بها ويجلدنا بعذابها وجنونها هي لنا.. ولنا وله السؤال، وجميل هكذا سؤال آت في حالة (مونولوج) متجاوزاً لغة الحوار التقليدي، التي ألفناها في النص القصصي المحلي، واختلفنا بسذاجة عليها (عامي، شعبي، ولّا فصيح) يا سلام!! يقول السؤال الخفي بعد أن ثبتت الحالة (الصورة) لظل أنثاه الواقفة خلفه، وقد صارت قريبة وقصرت المسافة وهدأ الخفقان الذي لم يمت بعد:
"هل يمكنني أن أرى التشوه في ظل وجهها؟ بغيض أن يرى الإنسان ظل الإنسان ولا يرى الأشياء نفسها.. لا بأس.. ما دمت أرى ظل صدرها فبالتأكيد أنها لا تزال واقفة أمامي.. فلو رأيت ظل شعرها فبالتأكيد أنها مشت.. كان ظلها دامعاً.. الأنثى كثير بكاؤها في الظل.." ص66.
الأنثى التي كانت في نص القاص ناصر سالم الجاسم حلماً ولوحة وجنية وراقصة (متخفية) في نصوص أخرى صارت ظلاً قريباً يمتد فوق رمال الصحراء.. الأنثى في النهار أبدع من ظلها في الليل.. والظل يتمدد في الخارج والداخل، بصفاء النفس وتألق السماء وتحلق الشمس ليتساوى ظل الجمال والقبح معاً على أرض الصحراء الحارقة.. وظل الأنثى وظل النفس في هذا التوحد حالة استبصار لملامح وجهها الحقيقي الآتي بالتراكم النفسي (دموع الأنثى تجبر الرجل على الصدود..) دموع الأنثى التي نبصرها في ظلها الممتد على رمال الصحراء الحارقة لا يأتي من عفو الخاطر ونصاعة المفردة وتكثيفها الشعري، بل من تناميها ذاتها والحاجة التي خلقت هذا التجسيد الأنثوي (أتحرى رؤية شعرها..) في تصاعد تقني لغوي نفسي تشخيصي مكاني.. ليبلغ مداه في النص الأخير وخاتمة أعمال المجموعة (الغرس) وقد أصابنا اللقاح والجرعة والتشبع بروح النص وتناميه كما أشرت في بعض الدلالات، وخوفي من أن تكون تشكلت عندي ردة فعل.. لنجد أننا نضع أنفسنا في مدينة.. (وتلك مفارقة أن تسمى..) نائمين في الماء.. في العيون أرض الخصب والعطاء.. في توصيف مكاني يقترب من إعطاء بعد دلالي لتشكل المجتمعات، ففي العيون شخوص كثيرة مساهرة لم تسمَّ.. ومن سموا ندرة في كل النصوص، فبهائمها رتع وشيوخها ركع.. و(ناوي) أحد شخوص النص الأخير "الغرس" تأمل الاسم.. (ناوي) يرقب المطر.. المطر الميمون لغرس خصلة..! وشتلة بها رائحتان للجسد والمطر.. والرغبة في الغرس تقطع عصب ناوي.. في العيون.. بالجنون، بالحب والأنثى والنشوة والوعد والحياة والطريق الذي لم ننته منه.. طريق الإبداع الصادق الذي لم تأخذنا منه التعرجات والإبهام والإيهام وسراديب الكلام إلى أن يفضي بنا إلى أرض الواقع ولغة العيون والمعلوم في النهاية.. العذر وليس الحذر لهذا المبدع المتفرد لاحتذائي به توقاً لابتداع نص مواز مستقل محاذ لنصه في مداخلتي، فوجدت بي شغفاً حد النقل والشف والجنون واحتقار الفواصل، وقد كنت في الكتابة والحياة وفي تصميم نهائي وحاسم أكتفي بما دونته عن هذا النص.. وأزعم أنه مداخلة..(!!) فلو تماديت في تتبع دلالات النص الإبداعي لأعدت كتابته عشر مرات بدول كلل أو ملل.. وليس بهدفي هذا.. وأبقيت ما دونته بشكله النهائي والعفوي.. فقد فرت مني عناصر الحكي، وهل من بعد (ظل الجنون) من متعة؟
ناصر مبدع متفرد صوت مثقف له خصوصية (فنية). اللغة عنده بيادق شطرنج يحركها مطواعة، يرفدها وعي وأجواء معيشة حد الصخب، الصخب والجنون، الدم والموت، مفردات جميلة.. قلنا من قبل عن استحضار (حالة) القبح.. ودلالتها الفنية والنفسية، تشبه معطيات الصوفية (عند الكاتب العربي الليبي إبراهيم الكوني والصديق الآخر سعيد الكفرواي من مصر مع بعض تحديداً) في الإخلاص لروح "الصحراء والمقبرة" وعالم المكان.
ولناصر لغته المدهشة يقدّ من حجر له لمعة ذاتية تبرق في جسد بناء كامل، ولهذا (شطر) النص الممتد ببراعة لغوية حاضرة بقوة على عناصر الحكي التي عوضنا عنها بتواصل عصبي ونفسي عضوي لغوي واعٍ، وفرض عليه الشكل الفني أن يغفل وترفع عن إعطائنا (فلاشاً) لسيرة الشخوص وإن كان يقترب من الكفراوي في النمنمة والحكي والمعالجة المستقلة.. هل عدت أهذي؟.. وأردد بكل عفوية لقد بدأت أجيب على الأسئلة.. لأن الهذيان وانفعالات الجسد الحسية حوار ثقافي مكتئب صادق، ونفعل ما نفعل لنتطهر، أن تبيت في جوار بيت نمل، جارك ضب ينتظر قضم إصبعك.
أصحابك جن في مقبرة عتيقة و(المراسيل) إناث الحمير..(صوت الحكي) يجسد قيمة الإبداع ومستوى الحكي لا يقبل أقل من حالة توحد تام، معني بها ضمير(الأنا) المتجدد المتفرد والظل البديل.. ويبقى (ضيوف الأب.. ورواد المطعم.. والسائقون) شهود زور على نمو الحدث، فقد غيبت مواقعهم على جسد النص الواحد الطويل (افتراضاً) 72 صفحة عن نادي القصة- شكراً له- لأن تنامي النص المجزأ يكشف لنا بشكل مهم دقة اختيار الفواصل (الاسمية) للنص كحالة تفضي إلى عمق النص تبعاً لحالته المستقلة، لأن الحالة الفنية اكتملت تعبيرياً وقائمة بحالة الشعر والرسم وروح النص المهيمنة نفسياً وفلسفياً وثقافياً.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق
I am happy to read your opinion or suggestions