-->

البناء الفني وتحليل الخطاب، قراءة لقصة "المائدة" للقاص والروائي ناصر الجاسم- أحمد الحاج العبيدي


مجلة قوافل الصادرة عن النادي الأدبي بالرياض تنشر في عددها السابع والثلاثين دراسة بعنوان:

البناء الفني وتحليل الخطاب، قراءة في ضوء نظرية النحو (التحويلية- التوليدية) لقصة "المائدة"

للقاص والروائي ناصر سالم الجاسم




بقلم الكاتب والناقد: أحمد الحاج العبيدي- العراق


قصة "المائدة" للكاتب المبدع ناصر الجاسم وهو يبحر بخياله الخصب استطاع خلق نص درامي ممسرح بعد أن وظف موضوع السحر (Magic) كوسيلة/ مودم لإيصال الفكرة التي اختمرت في خياله عبر الريجستر الخاص بالمودم، والريجستر هو مجموعة من المفردات تخص فرع معين من العلوم يجيد صياغتها العالم المختص بهذا العلم كما يعرفها علماء الخطاب. وعلى اعتبار أن اللغة هي الوسيلة التي تجمع بين المرسل/ القاص والمستقبل/ المتلقي عبر الرسالة/ شفرة اللغة (The Code) تهدف لتشكيل علاقة اتصالية بينهما قائمة على الفهم والاستيعاب والّا خرجت اللغة عن وظيفتها كما يحدث عندما يتحدث شخص مع شخص آخر بلغة لا يفهمها. 




وحسب نظرية القواعد التحويلية - التوليدية في اللغة (Transformational Generative grammar) والتي تشكل احدى نظريات تحليل الخطاب اللغوي عن طريق سعيها الى إيجاد علاقات مع مختلف عناصر الجملة من خلال مجموعة من القواعد أو التحويلات كي تصل الى فهم أوسع لهذه العلاقات، كما يمكن من خلالها توليد جمل لا حصر لها من مفردات تتلائم مع بعضها نحوياً ودلالياً. وقد فرق صاحب النظرية العالم أفرام نعوم تُشُومِسْكِي (Avram Noam Chomsky) ما بين المقدرة والأداء بالإشارة الى اللغة كعنصر تجريدي والكلام كعنصر مادي، واللغة كما أشرنا اليها مسبقا هي الرسالة، وإن تصاحبت هذه اللغة مع خيال، والأداء/ الكلام مع قدرة على التمثيل بإيحاءات ممسرحة سنصل الى غاية الخطاب اللغوي من خلال عقد صفقة بينه وبين الأدب أحد أهم ارهاصات العقل البشري منذ فجر الخليقة حتى يومنا هذا. 

وقد قسم تُشُومِسْكِي كل من الجملة أو العبارة الى بنائين؛ البنية السطحية (Surface Structure) وتشمل على الشكل الصرفي للكلمة (Morphology) والنظام الصوتي (Phonology)، أما البنية العميقة (Deep Structure) فإنها تشكل العلائق الدلالية للمعنى سواء كان هذا المعنى ضمنيا أم ظاهرياً. ويشكل النظام الصوتي أحد أهم مرتكزات علم اللغة خاصة عندما يكون لدينا مفردات ذات دلالة ايحائية يجري تكرارها لفظيا بقدر التأثير في أذن المتلقي كي نحصل من خلالها على ردود أفعال تعكس مرآة العقل البشري ومدى استجابته لحدة وإطالة وتكرار النبرة. لذلك انتقل البطل/ الساحر الى مسرحة الحدث باستدعاء مفردات لأسماء الجن تجد صداها بنبرة موسيقية واضحة المعالم في أذني المتلقي في حدود البنية السطحية: 

"سكروش مسمشوش أربدوش نسمشوش"

"بسبسوس نمنوس أرننوس نسنسوس"

"يخموخ جفشوخ خمخوخ نخنخوخ"

سعى الراوي/ الساحر، وحتى مؤلفو كتب السحر الى توظيف الفونولجيا لكل من الأصوات الصحيحة الألفونية /س/ و/ش/ و/ن/ و/خ/، بقافية موحدة وهي من الأصوات الصفيرية كما يصنفها علماء الصوت ولها تأثير موسيقي حاد في أذني المتلقي، ثم تكرار صوت العلة /و/ لتحيل المتلقي الى لغة خاصة بعوالم السحر والشعوذة. وبإمكان المتكلم عن طريق تبديل الحروف أو تقديم الكلمات وتأخيرها من صياغة كلمات وعبارات وأناشيد لا حصر لها يستجدي بها رؤساء قبائل الجن وكبرائهم وحاكميهم. 

وقراءة للبنية العميقة للعبارات الواردة في النص نجد أن الراوي قد سعى إلى تهيئة وليمتين الأولى؛ وليمة الهدوء والإثارة الجنسية

 "قدحان.. شمعتان.. خمر وعسل وبيض سمك.. فجل وجرجير وريحان"

والثانية وليمته السحرية من خلال استحضار ريجستر خاص بمفردات قائمة "شمس المعارف" التي شكلت المرجعية اللغوية والدلالية للنص

 "أظافر.. عظمة حُقٍ لرجلٍ ميت وفرخ دجاجة مريض وسم ثعبان نهري"

 كوسيلة لتحقيق المراد، ثم 

"عظمة حق لرجل ميت من معاطن إبل في نجد.. وفرخ دجاجة مريض فقس في غابات أفريقيا.. وسم ثعبان نهري لم يغادر أنهار الصين.. وأظافر رجل قاتل من سجن في أصفهان"

كوسيلة للتهديد بالحرق للخدام/ المردة، وجميع هذه المفردات والعبارات تحمل معاني دلالية في بنيتها العميقة كوسيلة تسهل على الخادم مهمته. وهنا يمكن تصنيف هذه المفردات حسب ريجستر البيئة السيسيو- ثقافية للنص، فـ(الجرجير والفجل والريحان) هي مفردات البيئة النباتية للصحراء (Flora)، بينما شكلت مفردات مثل (ابل، ثعبان، دجاجة) جزء من البيئة الحيوانية (Fauna) لنفس البيئة. "ونجمة تضيء في السماء السابعة"، فالساحر/ المخدوم هنا يستخدم طريقة التنجيم لاستحضار الخادم/ المارد  وتسمى أيضًا بـ "الرصد" الفلكي"؛ لأن الساحر يترصد طلوع نجم معين، ثم يقوم بمخاطبته بتلاوات سحرية وترديد طلاسم. وهنا نحن بحاجة الى تصنيف أو تخطيط شجري مثلما أشار تُشُومِسْكِي في نظريته لطرق استحضار الخادم فهناك طرق أخرى مثل طريقة الإقسام، أي إقسام على الجن بسيدهم، وطريقة الذبح حيوانًا أو دجاجة أو حمامة ويفضل أن تكون سوداء لأن الجن تفضل اللون الأسود، الطريقة السُّفْلية، وطريقة التنكيس بكتابة سورة من سور القرآن الكريم بالحروف المفردة معكوسة، وطريقة الكف برسم مربعات وطلاسم على كف طفل وطريقة الأثر...الخ.

شكل الزمكان مسرح الحدث والليل عوامل تضيف مزيدا من الإثارة للمشاهد من خلال التعبير عنها بنجمة السماء السابعة/ كوكب الزهرة وهنا توظيف لأسطورة كوكب الزهرة في الحضارات القديمة فهي من أكثر النجوم لمعاناً في السماء واكتسبت رسوخا في الثقافة الإنسانية فقد وصفت "الزهرة" في نصوص الكتابة المسمارية البابلية في جدول الزهر لأنو وأنليل (1600 ق م)، وقد نعتها البابليون "عشتار" وهي تمثل إلهة الحب والأنوثة عندهم، وهي عند الإغريق "أفروديت" وعند الرومان "فينوس"، أما المصريون القدماء فأعتقدوا بأنها كوكبين واحد للصباح وآخر للمساء.  

ولكن جميع مردة الجن بمن فيهم السماوي والأرضي والبحري وبكل وسائلهم المتاحة عجزوا عن إغواء الحبيب المنشود/ الأنثى: "ضعوه لها في قاع بحر مظلم لا يعبث بمائه أتباعنا ولا تسكنه قبائلكم أو ادفنوه في قبر طري أو اسكنوه رأس طير كثير الهجرة والترحال لا يعشعش في رؤوس الأشجار ولا يضع بيضه في أخاديد الجبال وستأتي"، ولكنها لن تأتي أبداً، فهي مستلقية على سريرها ومحروسة في قصرها ومحمية في نفسها. ويسرد لنا الراوي على لسان الشخصيات أسباب داخل المشهد الدرامي تبرر عدم تمكن الجن من اختراق الحبيبة/ الأنثى وتصريحهم العلني بذلك رغم تهديد الساحر/ المخدوم بحرقهم؛ "اطلب مني أي شيء إلا الإتيان بحديدة"، كونها "لا تحزن.. لا تغضب.. لا تفرح كثيراً.. إنها أكثر تحصيناً من قصورنا المرمرية، وهي في طهر دائم!!"، كما "انها لا تكف عن الاستعاذة منا ومنكم!!." بالإشارة الى شياطين الإنس والجن، بالإضافة الى أن "مساماتها مغلقة حتى على الفاتنين من خلقكم!!." على حد سواء. وهنا تناص قرآني: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً} (الإسراء:65)، كما أن  هناك توظيف للحكاية الشعبية في منطقة الشرق تفيد بعدم إقتراب الجن والشياطين من الحديد، وقد استفاد الكاتب من عملية المشترك اللفظي (Homonymy) من النوع الصوتي (Homophone) لكلمة "حديدة" فهي تعني جنس الحديد من الفلزات، وفي نفس الوقت تشير للبطلة المرسومة بإسم العلم "حديدة بنت ماوية". 

لقد شكل الصراع نوعاً من أنواع الصراع المركب بين الساحر/ البطل وخدامه الذين يمثلون رمز الشر وبين البطلة/ الحبيبة وتمثل رمز الخير، وينتهي هذا الصراع بانتصار الخير على الشر "قالوا في صوت واحد: أردنا أن ننكحها فلم تفتح فخذيها لنا!!."، ثم صراع بين الساحر/ المخدوم وبين مردة الجن/الخدام والذي ينتهي بانقلاب السحر على الساحر عندما اختفت النجمة المضيئة من السماء السابعة وهي مصدر قوته فتمرد عليه المردة عندما "صفعوه على وجهه فأصبح أعمى وأخضر رغيف الخبز الأسمر ويبس الفجل والجرجير والريحان وهاجم النمل الأسود العسل وبيض السمك"، بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} (طه:69)، ولم يبقَ على المائدة سوى مفردات الأمل الفيروزي بحضور الحبيب "خمر وقدحان وشمعتان".

ولكن ماهي الأسباب خارج النص الدرامي التي طلسمت الحبيبة وحفظتها من أعتى مردة الجن برأيي؟ فالسبب الأول هو سبب ضمني لو اكتفى البطل/ الساحر بجلسته معها فقط وسَحَرَها بمفرداته وكلماته الرومانسية لكان أجدر على الفوز بقلبها من كل تلك الشعوذة، ثانياً أن البطل/ الساحر لم يكن حاذقاً بما فيه الكفاية إذ نسي أهم ثلاثة عناصر في قاموس السحر والتي تساعد على نجاح العمل كما أشار اليها وليم شكسبير؛ "عظم الهدهد وناب الثعلب وعود البخور الشرقي". والسبب الثالث هو أن حبيبة قلبه نائمةٌ في قصرٍ مرصود/ والقصر كبيرٌ يا ولدي... وكلابٌ تحرسه.. وجنود/ من يدخل حجرتها مفقود... من يدنو من سور حديقتها.. مفقود/ من حاول فك ضفائرها... مفقودٌ.. مفقود.


خلاصة الكلام أن الكاتب المبدع ناصر الجاسم قد تجلت عملية إبداعية في قصة المائدة من خلال عدة نقاط:

1) لقد تمكن الكاتب من امتلاك لغة وخيال ساعدته في سبر غور بنية النص ودلالاته الفنية والاجتماعية.

2) مسرحة الحدث وتوظيف الفونولوجيا بمشاهد درامية أضافت عنصر التشويق والتفاعل بين الراوي والمتلقي من خلال موسيقى الكلمات التي وجدت صداها بين أذني المتلقي.

3) تمكن الكاتب من توظيف البيئة السيسيو- ثقافية التي يعيش فيها: "... معاطن إبل نجد.. وغابات أفريقيا.. وأنهار الصين.. سجن في أصفهان"

4) تمكن الكاتب من اختراق المسكوت عنه في ثقافتنا العربية وهما تابوات الدين والجنس.

5) تمكن الكاتب من وضع تصنيف لعالم النبات والحيوان في بيئته، بالإضافة الى تصنيف لأسماء وواجبات المردة (سماوي، أرضي، بحري)، وطرق استحضار الخادم.   


TAG

ليست هناك تعليقات

إرسال تعليق

I am happy to read your opinion or suggestions

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *