حوار شعري مع الأشياء والكائنات
في مجموعة النوم في الماء لناصر الجاسم
عبد الله السمطي - مصر
المصدر: صحيفة الشرق الأوسط، العدد 2312، 5/ 12/ 1998م
كتابة الوعي هي ما يمكن أن نسم بها هذه الكتابة السردية التي يطل بها القاص ناصر سالم الجاسم علينا في مجموعته الجديدة "النوم في الماء" الصادرة عن الجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون 1998م.
في هذه الكتابة تتخلق أطر سردية ترمي إلى صياغة ما هو لا واعٍ ولا ملموس، إذ ينحو الكاتب إلى استشراق جوانياته عبر كتابة آلية لا إرادية لا ترتب الأشياء أو تنظمها بقدر ما تستدعيها على علاتها، كتابة تحتفي بالحلم وبالكوابيس، وبحالات الجنون التي تعبر عن حكمة هذا الجنون، وعن تلقيه الوقائع بشكل مختلف وبوعي دالٍ يصبو إلى عقد ألفة ما- دون مسميات أو قيم مسبقة- بين الأشياء والكائنات.
لا حضور جوهرياً للشخصية في هذه القصص، بيد أن الحضور الأساسي هو حضور الكاتب ذاته، ولنقل الأنا القاصة التي تنشطر- عبر الوعي- إلى أنوات متعددة، كما نجد في معظم قصص المجموعة، خاصة في "تغريدة الوهج"، لتعبر عن حالات إنسانية متعددة، لكن الرابط بين القصص دلالياً، ليس الحديث عن الأنا وحدها، ولكن الحديث مع الكائنات والأشياء والدخول بها إلى مناطق سوريالية ورمزية متعددة.
تضم مجموعة "النوم في الماء" نحو ست عشرة قصة قصيرة، تمضي في نسق بنيوي وسردي واحد من الوجهة التقنية التي تركز بالأساس على ما هو سردي من جهة، وما هو "وصفي" من جهة ثانية، مع تغييب "الحواري" قدر الإمكان، ذلك لأن الذات هي المحور الجوهري الذي تبنى عليه القصص من الوجهة الدلالية. ولعل الارتكاز على ما هو سردي ووصفي يعطي بعداً زمنياً من حدين:
- الأول: تواتر الأحداث والوقائع في شكل متتابع تكثر فيه الجمل القصيرة- كما في القصص- مع الأخذ في الحسبان أن الزمن هنا معطل دلالياً لأن حضور الماضي أو الحاضر يخدم فحسب الحالة الحلمية/ الكابوسية التي ينقلها الكاتب.
- والثاني: تواتر الوصف الذي يثبّت الزمن تماماً ويعطله، لوصف حالات ومشاهد متعددة مرت بها ذوات القصص التي يُضمّنها الكاتب أناه الساردة.
في قصة "موت القصائد" يعبر الشاعر عن هذا الحلم المتواتر الذي يربط الغناء بالحب، أو الشعر بالأنثى، هذا الحلم الرومانتيكي الذي يجعلنا نضحي بأشياء كثيرة لقاء التواصل مع من نحب، لكن هذا الحلم لا يتحقق ولا يلتقي المحبوبان عند النبع- كما تحلم الذات الساردة- بل تجد هذه الذات الشاعر حاضراً عند النبع يندب حظه ويرثي قصائده:
"لاحظت أني لا أعرف كيف أموت.. فتشت عن قدمي الشاعر في النبع واصطدتهما وشددتهما بيدي إلى القاع، فعجبت لاستسلامه ولم أسأله عن السبب، عرفت أنه ينتظر الجنية مثلي.. توجهت إليه فحفن لي براحتيه ماءً كتب عليه شعراً.. شربت من كفيه كأساً من الشعر يرقيني به.. عدت إلى قاع النبع وأنا أقاوم شوقي إلى لقاء الجنية".
ويركز القاص في جلّ قصصه على هذا الحلم المفقود الذي يصبح كابوساً في قصص كثيرة مثل: تغريدة الوهج، والملف السري لرصاصة، والنوم في الماء، واحتفالات نمل الجبل والغربان، وعرس الجن، وظل الجنون.
وفي النوم في الماء يتحدث عن "حشرة الخوف"، ويتناول في قصص "عرس الجن"، و"ظل الجنون"، و"الغرس" هذه العلاقات العاطفية المحبطة التي تنتهي بالفشل، ولعل ما يمكن أن نسميه بحوار الأشياء والكائنات، هو أبرز ما يفعله القاص في خطابه السردي في قصص المجموعة حيث تتحاور الطيور والحشرات وحبات المطر، كما في قصة "احتفالات نمل الجبل والغربان"، ويتحاور الجن كما في "عرس الجن" مع بعضه البعض، وبالطبع هذه الحوارات لا تتم إلا في منطقة "الوعي" حيث تتلاقي المتضادات وتتآلف المتطابقات.
إن القاص يعبر عن رؤية موتية- إذا جاز التعبير- قوامها سريلة الحالة، وتشييء الذات التي يذكرها الموت دائما بالوقت، ولا يجدي معها هذا الاسترسال الشعري الذي لا يعيد الحياة الحالمة لهذه الذات ولا ينكأ جراحها.
في أفق هذه الرؤية يَعبر القاص، فتتكرر مفردة الموت كثيراً، وتتكرر مشاهد الموت ودلالاته في معظم قصص المجموعة، فيسمي القصة الأولى من مجموعته بموت القصائد، ويتحدث عن المقابر في قصص كثيرة، وعن اليباب الذي يصيب الأشياء، وعن موت الغصون، وذبول الأشجار، عن جثته المهملة التي تتسابق إليها الذئاب والكلاب والغربان والنمل.
وتواتر تعبيرات موتية بشكل واضح في القصص من مثل: "لاحظت أني لا أعرف كيف أموت"، "أذبلني النظر إلى الجماجم المتعفنة في الحدائق العارية"، "سينعق الغراب على جمجمتي المسلوخة"، "الموت ينتقل بين الأسرّة، يقف على النوافذ"، وغيرها من التعبيرات التي يحتشد لها احتشاداً، ولعل هذه الرؤية الموتية، توقفنا على جانب سوداوي لدى القاص الذي يرى أن فشل الحلم، وفشل تجربة الحب النقي، جعلت كل شيء يموت، وكل شيء يتحول إلى يباب:
"البيدر مطعون بالسيف.. الأشجار تتيمم بالغبار، الأغصان مسامير واقفة.. خراف الأمس الراكضة أضحت بذوراً منثورة.. الطيور الميتة أمست علامات عبور للرحل، متى تلد الصخور مياهاً؟ متى يأكل السرو فاكهة ناضجة".
ومن الأمور اللافتة في القصص أن القاص يجرّد قصصه من حضور الشخصيات كما قلت، كما يجردها من حضور أمكنة وأزمنة معينة، على الرغم من الخلفية الصحراوية والمدينية التي تؤطر مكانياً للمشاهد القصصية، ولعله بهذا التجريد إنما يؤكد على ما هو إنساني في المحل الأول، وأن ما يحدث من اكتئاب وإحباط وفشل إنما يحدث لأي إنسان على هذه الأرض، والقدرة الحقيقية في مجاوزة هذا الفشل.
وتتسم معظم الجمل السردية في المجموعة بالقصر، وبتعميد ما هو وصفي جوهراً، هذا القصر صنع نوعاً من الإيقاعية البارزة التي قد تؤثر بالسلب على قيمة القص وتنقله إلى نطاق آخر (شعري) يجعل القارئ يفتتن بحجاب ما هو إيقاعي، ويغفل دور الوصف في صناعة القص أو الخطاب القصصي داخل المجموعة، كما نجد في قوله مثلاً:
"الإذاعات كثيرة، المذيعون طزج، ساعات البث رصاص، يجوع الرضيع، الأثداء مصلوبة ناشفة، لا ثدي في المدينة، هاجرت كلها مع العصافير.. أثداء الرجال بالمجان، ولا طفل يريد".
إن قصر الجمل من العناصر الأسلوبية البارزة لدى القاص، وقد تصبح من العناصر الفاعلة سردياً، شريطة ألا ينصرف إلى إيقاعاتها، وأن يوظفها داخل النسق القصصي، وهو ما لا نرى هذه المشاهد السريعة القصيرة تفعله إلا في عدد محدود من القصص، مثل: النوم في الماء، ظل الجنون، الملف السري لرصاصة.
لقد قدّم ناصر الجاسم مجموعة قصصية لافتة للانتباه برؤاها الحلمية التي يختلط فيها ما هو سوريالي بما هو رمزي، وركّز على اصطفاء لغته السردية مقدماً عمله الثاني بعد روايته "الغصن اليتيم"، وهو إذ يقدّم ذلك إنما يدل على هذا الحراك السردي المميز الذي تقدّمه الأصوات الجديدة في السعودية وتسعى إلى تثبيته وتعميق جمالياته.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق
I am happy to read your opinion or suggestions