-->

الشخصية في عبور ناصر الجاسم- بقلم الأستاذ حسين السنونة

 الشخصية في عبور ناصر الجاسم




بقلم: حسين السنونة- السعودية

كنتُ راجعاً من ممارستي الرياضة الصباحية، وحسب برنامجي أقوم ببعض التمارين "السويدي" ثم أجلس قليلاً بعد أن يدغدغ الماء قلبي ورئتي وبقايا أجزاء جسدي، ثم أجلس فاتحاً التلفزيون على الأخبار ولكن بدون صوت، فالأخبار أصبحت متشابهة، وأنتظر دقائق قبل السباحة والفطور، لا أعلم، لا أعرف تلك اللحظة التي سقطت أشعة عيني البنية، تحركت أنامل يدي اليمنى على مجموعة قصصية من على طاولة مكتبتي الصغيرة جداً، "العبور" لناصر الجاسم أو أبو سالم.

  كانت بداية الجلوس مع المجموعة، انتهيت منها في جلسة واحدة فقد سحرني الأسلوب، أدهشتني الأفكار، حاصرتني الأسئلة المتعددة كما تحاصر النجوم وجه القمر.

في النصوص أبهرتني الشخصيات، صدمتني بعض النهايات، تفاعلت وقمت مع بشر باصطياد الحمائم والعصافير في نص "غوث الزقاق"، لم يكن قلب الرياح وعين الغبار يقلقني في نص "حبات الرمل"، رأيت مع العجوز عايد قوالب الثلج والمياه المعبأة في نص "الصراير تأكل لحمها".

استوقفتني وصية الشيخ في نص "النقط الزرقاء"، لم يكن الضوء ينحت في الظلمة الطاغية بل رسم لي حياة من الأرقام في نص "الأرقام لا  تتكلم"، مسكينة تلك النخيل التي لا تهطل بالرطب في نص "آلام لم تكمل ولادتها"، رأيت الأقدام تدكّ الأرض أثناء الرقص في نص "قارع الطبل وطائر الليل" حاولتُ أن أرسم صورة البدوية الحسناء في نص "عاشق البدوية".

ضعفت أن أضرب العراف وأنا أضحك في نص "العراف والوزغ"، لا أؤمن أن المرأة كلها شر كما جاء في نص "عزاء الأموات"، رغم قوة موجات الماء لدينا صدور للمقاومة حتى لو كنا عراة في نص "العبور".

  نص "النخلة العجوز" كان مدهشاً في الفكرة مثيراً في العنوان، وما أجمل رائحة الحبيبة عندما تنتهي من شرب الشاي المنعنع، حتى فاقدو البصر لهم أحلامهم وفلسفتهم كما في نص "فلسفة الأعمى"، كلما كان شعاع الشمس دافئاً ومسّ عيون الأطفال حتى وإن كانوا نائمين، يميع وجع الغريب في نص "الغريب"، حوار جميل ومثير والشعر الغزلي غير العفيف في نص "لحد في القلب"، لم أتمالك نفسي واسمح لي أيها القاص فقط أضفت دموعي إلى سطور النص الرائع برائحة الماضي والحب الذي يصل الأرض بالسماء في نص "ذاكرة المطر".

ناصر الجاسم من القاصين المتمكنين من الكتابة القصصية وإبراز عناصر القصة القصيرة في كتاباته القصصية، وأيضا اهتمامه بنوعية القصص وليس بالكمية، وهو من القاصين الذين تشعر وأنت تتطلع على ما كتب أنه مثل النحات الذي يحوّل قطعة من الحجر إلى وجه فتاة جميلة أو وجه جميل. وهو عكس الكثير من القاصين _ ومنهم حسين السنونة _ الذين يغفلون بعض عناصر القصصي في نصوصهم.

يقول الأديب الردني هاني الهندي: تعدّ الشخصية من أهم العناصر الرئيسية في البناء القصصي، التي لا يمكن فصلها عن أي مكون من مكونات البناء القصصي، ولا يجوز تجاوزها في أية دراسة قصصية تسعى لشموليتها، إذ ترتبط بها الأحداث، فلا يمكن أن يقوم الحدث دون شخصيات، ودون تداخلها مع المكان والزمان.

ويرتبط بناء الشخصية في القصة القصيرة على قدرة القاص في الخلق والإبداع لقصر شكلها ومحدودية زمنها وبنيتها مما يمنع نمو الشخصية، ولا تقدم لها إلا بعض الملامح الخارجية أو النفسية مما يجعل تقديم صورة كاملة للشخصية من الأمور الصعبة التي تتنافى مع مقومات القصة القصيرة، لذلك تتطلب عملية رسمها _ كما أوردها عبدالملك مرتاض في كتابه "تحليل الخطاب السردي" _ جهداً فنياً كبيراً، وخبرة عميقة بأساليب الفن القصصي للعديد من الأساليب.

ناصر الجاسم القاص من خلال مجموعته القصصية "العبور" وعندما تركز في الاطلاع على الشخصيات في المجموعة يتضح أن للشخصية أهمية لدى الجاسم، ويجعل منك كقارئ أن تسمع صوت الشخصية وهي تتحدث مع غيرها من الشخصيات القصصية عن طريق الحوار الذي يكشف عن رؤية الشخصية وتفكيرها.

استطاع الجاسم أن يُحمّل الشخصية أفكاره وذكريات الماضي الجميل من خلال الحوارات بين الشخصيات، بل استطاع أن يستحضر أحداثاً في الماضي بطريقة عميقة وفي نفس الوقت سهلة وسلسلة لتكون مقبولة لدى نوعية القارئ، مثل نص "ذاكرة المطر".

أعتقد أن ناصر الجاسم استطاع أن يحمل الشخصية أفكاره وتتحدث بلسانه رغم تعدد الشخصيات في المجموعة القصصية "العبور"، ومع وجود الأثر البيئي والتاريخي والإنساني المحيط بالشخصيات وأيضاً نوعية وأثر المكان والزمان، ولربما كانت روعة الشخصيات في المجموعة بسبب أن القاص تعامل مع الشخصية بوصفها عنصراً فنياً مهماً، فتجد أن الحوار مناسب للشخصية في النص سواء كانت الشخصية الرئيسية أو الثانوية وأيضاً لكل شخصية مستواها الثقافي مما جعل الحوار مناسباً لكل شخصية من شخصيات المجموعة.

 وكذلك أعطى أبعاد الشخصية القصصية في النصوص وقد أظهر الشخصية بأبعادها المختلفة حسب البعد الذي ركز عليه القاص الجاسم فقد كان لكل شخصية بعد مختلف عن الشخصيات الأخرى وقد كان واضحاً التكثيف اللغوي في النصوص مع مراعاة بناء الفن القصصي. وهو ما ساعده على رسم الشخصية بطريقة فنية أعطت الدلالة لأهمية النصوص.

وبطريقة تدل على التمكن من عناصر القصة رسم القاص الجاسم أهمية لأبعاد شخصياته القصصية:

 *الاهتمام بالاسم للشخصية: فقد اهتم القاص باختيار اسم الشخصية، بحيث اختار اسماً دالاً قد يكون له علاقة بالصفات الشكلية للشخصية، أو يتصل بأحد أفعال الشخصية، وقد لا يطلق القاص اسماً معيناً على الشخصية، وهذا يمثل بعداً إنسانياً للشخصية، فيصور الأديب محنة الإنسان وأحلامه بعيدًا عن اسمه، وهذا يعطي بُعدًا عامًا للشخصية والحدث.

 *البعد الاجتماعي: ويظهر من خلال علاقة الشخصية بمحيطها وأثر ذلك في سلوكها، وكذلك الطبقة الاجتماعية التي تنتمي إليها الشخصية، وكان واضحاً في النص القصصي "النقطة الزرقاء".

*البعد النفسي: يكشف القاص في هذا البعد عن نفسية الشخصية القصصية، والعوامل المؤثرة فيها التي ساعدت في تكوينها، ويظهر هذا البعد عندما يستخدم الأديب المنولوج الداخلي؛ لتعبّر الشخصية عن مكنوناتها النفسية والتناقضات التي تشعر بها تجاه الحياة أو تجاه حدث معين، أو شخصية معينة، وهو ما كان واضحاً في النص القصصي "فلسفة الأعمى"

 *البعد الأيديولوجي: يكشف عن الفكر الذي تحمله الشخصية، وتصوراتها تجاه قضايا معينة، وقد يساعد الحوار الخارجي في القصة على بيان هذا البعد وإظهاره وهو ما كان حاضراً في قصة "لحد في القلب".

ناصر الجاسم استطاع عبر مسيرته القصصية أن يكون متنوعاً، رغم أنني أنا من الناس الذين تعرفت على ناصر الجاسم ورسمت في عقلي أنه كاتب قصة يتمحور حول السحر والشعوذة والجنس والبخور إلا انه في الفترة  الأخيرة كان متنوعا مختلفا اكثر إدهاشا وإثارة في ملامسة الوجع والألم والحسرة و الذكريات من الزمن الماضي وإسقاطها على الحاضر، وأيضا استطاع مثلاً في العبور في أكثر النصوص من خلق الدهشة في نهاية القصة بشكل تكون صدمة لدى القارئ.

أنت أمام قاص يجعل من رائحة غبار القبور التي تتلاعب به الرياح نصاً قصصياً أخاذاً، يصنع من قلب الشمس التي تجلد الأرض بنيران أشعتها الصيفية نصاً قصصياً يثير الأسئلة.

ناصر الجاسم قاص متنوع ومختلف فهو لا يكرر نفسه في النصوص، ليس أسير التقليدية القصصية، هو قادر على تقديم الجديد في عالم القصة القصيرة وهو ما يفعله من خلال الإصدارات القصصية التي يطرحها في السوق للقارئ النخبوي والعادي، وواضح أنه يراهن مع نفسه أن الجديد قادم في المجموعات القصصية القادمة.

في مجموعة "العبور" كان موجود أنا وأنت آباءنا أجدادنا جيراننا أحلامنا في الماضي والحاضر.


TAG

ليست هناك تعليقات

إرسال تعليق

I am happy to read your opinion or suggestions

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *