-->

دم الغزلان لناصر الجاسم، ضمن كتاب مئة قصة قصيرة سعودية

 دم الغزلان




قصة قصيرة: ناصر سالم الجاسم

للمغرب لون لا يشبه لون الصبح، وفي النهار جنٌّ ليسوا كجنِّ الليل، وفي داخلي شوقٌ كبير لمطرٍ يجمعني مع "صلوات" حبيبتي الغائبة عني منذ زمن بعيد، وبخور الليل ينتشر في فضاء شقتي الصغيرة المتواضعة وقد سبقه بخور النهار في التصاعد من فوهة المبخرة اليدوية المزينة بالدبابيس ذهبية اللون؛ ليملأ المكان ويغادر منه إلى بيوت الجيران، وإلى الشارع المليء بدكاكين العطارة ،والفواكه، والخضار، والتمر، والباعة الجوالين للرطب، وللأقمشة الرجالية والنسائية، والطيور الداجنة، والبط والأرانب، وصلوات حبيبتي التي انتقلت - قسرا بجهاز عرسها وبفجيعتها في فقد الزواج بي، وبلذتها العظيمة الحاضرة في المكان والزمان، وبأنوثتها العالية المكفّنة في حقيبة ملابسها - من جَرْها إلى تابُوَا مُحالٌ أن تحضر في مجلسي للأبد؛ فقد قرأتُ نعيها اليوم في الجريدة، نعي نشرته أختها درر، بكراهتها العالية في القول والفعل والحاضرة دوما في ذاكرتي:

- صلوات لا تحبك، لا تحبك، من قال إنها تحبك؟ 

قلت في نفسي: صلوات عَرَقها حلو ومن كان عرقه حلواً مات مبكراً، ودرر عرقها مر ومن كان عرقه مراً عاش زمنا طويلاً حتى يُعمَّر، وأبو مزيد الساحر الذي لا يعرف القلق، ولا الشعور بتأنيب الضمير، يحضّر بدم الغزلان حبرَ طلسمِ العهر لفتاة عفيفة، ليطيّـرها من بيت والديها إلى أحضان الرجال الفاسقين، يمزج قشور الرمان وأوراق ورد شقائق النعمان، ويضيف إليهما  الزعفران، ليتكون في النهاية العطر الفاسي بلونه الوردي الجاذب الذي تشتهيه سيقان الفتيات المغربيات، وأفخاذهن البيضاء، وتناديه ركبهن النقية للزينة، و أبو مزيد لا يودع المزيج السحري قوارير الزجاج كعطار أنيق، وإنما  يقوم بحقنه في قلم الشفط كممرض ضماد، ويسميه دم الغزلان، ويحضّر به أيضًا طلسمَ داء الرجال (المحنة) لغلامٍ أمردَ جميل، يروّضُ به طهرَه القوي لطُلابِ الشهوة المعكوسة، ومبتغي امتلاك الأولاد كزوجات لهم.

 قلت لأبي مزيد بعدما جففتْ أنفاسُه الثقيلة وهواءُ الغرفة الساكن حبرَ طلسمَي العهر والمحنة في مربعات الأوفاق:

- أريد عفريتاً من عفاريتك أستأجره، لينقل قبر صلوات من تابوا إلى جَرْها، على أن يكون عفريتاً أميناً يحمل قبرها كله دون أن تنقص منه حبة رمل واحدة!  

- عفريت واحد لا يكفي، لا بدّ أن تؤجّر مني عفريتاً ثانياً معه، يدفع سحابة ممطرة إلى ناحية قبرها قبل أن يجف، فنقله رطباً متماسكاً أكثر سلامة له من نقله جافاً مبعثراً!... لم لا تذهب إلى تابوا لزيارة قبرها كل عام مرة وتعود، ولتكن زيارتك له كحجة تحجها؟!

- لقد أخذوها مني حية، ولن أسمح لهم أن يأخذوها مني ميتة أيضا! ثم إن أهل زوجها بدوٌ، ولو رأوني حاضرا جنازتها أو واقفاً على قبرها لطردوني، إنهم يدفنون موتاهم ولا يزورونهم، لقد علمتهم صحراء الشمال أن القبور لا تبقى زمناً طويلاً، وأن الرمال تطمرها سريعاً، وتغيب معالمها في الغد القريب، وكلّما انتقلت صلوات من مدينة إلى مدينة نقلت قلبي معها يا أبا مزيد، لقد نقلت قلبي كثيراً بين مدن جزيرة العرب، ولم تجعله يستقر إلا في تابوا، حيث ماتت هناك، وظلّ قلبي حياً يخفق بحبها حتى الساعة، ماتت وأهلها لم يجعلوا لي حقاً في تشييعها! ... مُر عفريتك الأول يَحضر لأملي عليه حديثي للسحابة الشمالية..

تحركت شفتا أبي مزيد بالهمس لكائن غير مرئي، ولم أهتم في الأصل لرؤيته والتفتَ إليّ مخبراً: 

- عفريتي جاهز، قل ما تريد ليوصله للسحابة المختارة وهي الآن في سماء جرش.

- "كوني أيتهما السحابة مطراً ناعماً تستقبله حدبة قبرها، إياكِ أن تهطلي مطرًا مدرارًا وتهدمي قبرها المبني بناءً هشًا بأيدي بدوٍ جهّال لا يحسنون تشييد القبور، وتؤذي محاجر عينيها، أو تذهبي بخصلات شعرها الأسود إلى الوادي مع جرف السيل، أو تكشفي عظام ساقيها الجميلتين لهواة الصيد ومحبي قنص الطيور في البرية، أو تُبيني عظام قفص صدرها لتذرق عليها طيور الفلاة في استراحاتها، أو تلهو بها الجنُّ وتلعب في ليالي اكتمال القمر ...."

- لا تطل في مخاطبة سحابة أوقفها عفريت لتمطر على قبرها؟ هي تحب الماء ومن يحب الماء لن يؤذيه، لا تقلق على أنثى ميتة!

- نعم، لقد كانت تحب الماء، وتكثر السباحة والغمر فيه، لقد قالت لي قبل فجيعة فقد الزواج بي: سأعلّمك كيف تسبح معي في البحر مسافات طويلة، يا لقوة إرادتها!..  وَيَا لِحبها الكبير للتعلم وللتعليم!.. لقد علّمت البدويات الشماليات كيف يسبحن بمهارةِ مَن ولدنَ في الماء وبمهارة أبناء السواحل، ولقد غابت الآن عن الماء والهواء والضوء، عُمُر ابن آدم يا أبا مزيد قصيرٌ جداً، مثلَ فيءِ الضحى يزول بسرعة... مُر عفريتك الثاني يحمل قبرها إليَّ، فشوقي إليها مستعر لم ينطفئ ليلة واحدة منذ عشرين سنة، هي ماتت وشوقي حيٌ ينمو ويكبر، حيٌ لم يمت، حيٌ لم يمت.

تحركت شفتا أبي مزيد بالهمس ثانيةً لكائنٍ ثانٍ غير مرئي أيضاً، همسٌ بدا مختلفاً عن الهمس الأول، وأكثرَ طولاً منه، وغابتْ معه عينا أبي مزيد في شبه إغماضةٍ جبريةٍ لهما حتى نطقَ مع عودةِ رموشهِ للحركة:

- قم فادخل حجرة عرسكما المغلقة منذ أن حلّتْ بكما الفجيعة التي استاءت منها الملائكة إلى ساعتنا هذه، فعروسُك نائمةٌ هناك نومةَ الأبد، وهي غيرُ عذراء في قبرها، الذي اخترتَ أن يكون مكانه فوق سرير نومك وبجانب مخدعك، لقد أتيناك به، وتذكّر أن للقبور حرمتها، وأن أعراض الموتى مصانة، وأن ليس كل أبيض شحم، وأن ليس كل أسود فحم، وأن صلوات في حياةٍ برزخية وليست هنا، هنا جثةٌ طاهرةٌ زكيةُ الرائحة لا تجد طلاسمي أي جدوى معها، جثةٌ عطرها هزم دمَ الغزلان، ودحر بخورَ الليل والنهار!

دخل الحجرة باكياً، ونظرهُ منصبٌّ بحنينٍ فاضح على القبر الراقد فوق سريره تحت ضوء النور الأحمر الخافت لا يحيد عنه، وخلع ثوبَ عرسه وهو ينشج  بحرقة عالية، وقدماهُ بالكاد تحملانه ليمشي بهما على أرض الحجرة، ولم يَــفُـــتْـــــهُ أن يلقي نظرةَ شوقٍ طويلة جداً على القبر وهو يشدّ ياقةَ ثوبِه من خلف رقبته ليخرجه من جسده، وقد أبقى منامته عليه، وفتح خزانة ملابسهما، وأخرج منها عطرا فاخرا جدا اقتناه ليتعطر به لها منذ عشرين سنة، وقد فعل وزجاجة العطر ترتجّ في يده وتكاد تسقط منها، واتجه إلى قبرها واحتضنه منبطحا فوقه، وبلل ترابه الرطب بدموعه التي لا يعرف أحد متى توقفت، ولا يعرف أحد أيضا متى فك احتضانه لقبرها .

قال العفريت الثاني لأبي مزيد متعجباً في حَدَثٍ يعدُّ الأول من نوعه منذ أن عُيّن خادماً له: 

- لم أحمل يا سيدي قبراً من قبل بمثل هذا القبر، كان حمله خفيفا مريحا، لدرجة أنني شككت أن هناك أحداً معي يحمله، فأدرت رأسي وأنا طائر به فوق الغمام البعيد الكثيف المتراصّ، ونظرت له وهو فوق ظهري، ولم أبصر أحداً يشاركني الطيران به، ولم أجد أحداً أثناء رحلتي يعترض طريقي كالعادة من الحرس العلويين، كانت الطريق سالكةً جداً ومضاءة، وكانت رائحة المسك الأبيض أطواقاً تغلف القبر من بداية نقله في تابوا حتى إنزاله في جَرْها، وفوقها يحلّ سياجٌ من نورٍ قاطعٍ يحميه، حتى أنني شككت أنه قبر لأنثى من البشر قد تقع كثيراً في الخطأ، وأعلم أنني كباقي العفاريت، نعرف جميعنا أماكن قبور الأنبياء والرسل والصالحين جيداً، ولا نقربها أبداً أبداً. 


الخميس ٢٢ أكتوبر ٢٠٢٠

٥ ربيع الأول ١٤٤٢ هـ



TAG

ليست هناك تعليقات

إرسال تعليق

I am happy to read your opinion or suggestions

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *