أتقدم بالشكر الجزيل للقاصة الأديبة الدكتوره #نادية_خواندانه على ترجمتها الإبداعية لقصة #اللون_الإبليسي إلى اللغة الإنجليزية، متمنياً لها المزيد من النجاحات في هذا الحقل المعرفي المهم.
The Diabolic Color
Naser Salem Aljasem
Translated by Nadia Khawandanah
جِـســـــرُ الخَـــــدود
(اللون الإبليسي)
إنها تمطر في الحسا مطراً
هتّاناً، وأنا واقفٌ فوق جسر الخَدود أقرأ في سِرّي الآية التي نزلت على النبي
الصابر أيوب: "ارْكُضْ بِرِجْلِكَ ۖ هَٰذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ
وَشَرَابٌ"، وأتأملها، وأتأمل نهر الخدود على إيقاع حركة ركض السحب، وصفحة
ماء النهر أمامي تستقبل قطرات المطر القليلة الناعمة النازلة من سماء الله برضا
لتلتحق بزميلاتها قطرات ماء النهر الجارية نحو الشمال الأخضر المزدان بأشجار
النخيل المتراصّة، والسيارات عن يميني وعن يساري تسير فوق الطريقين اللتين شُيّد
الجسرُ الصغير ليصلهما ببعضهما البعض، تسير بأنوارها الصفراء وتدور في الفضاء
المرتفع المفتوح كخرزاتِ مسبحةٍ عددها ألف خرزة أو يزيد، وقد بدا الجسر بمساحته
الضيقة كالخرزة الكبرى في المسبحة، بل كرأس المسبحة، وبدا النهر تحته وتحت نور
القمر وتحت هالات أنوار السيارات طويلاً وجميلاً وفاتناً بهدوء جريانِهِ وعمقه
القليل، وبالحشائش الصغيرة النابتة على ضفتيه، وبدوتُ وأنا فوقَهُ كطائرٍ ليلي
بحري مهاجر حلّ من السماء، وأخذ يلتفتُ يميناً ويساراً قبل أن يدسَّ منقاره في جوف
الماء ليشرب من ظمأ شديد أصابه، أو ليلتقطَ سمكةً من جوع كبير مسّه، تلفّتَ ليؤمّن
زمنَ نزوله في الماء، ولينجو من طلقة رصاص غادرة قد تنال رأسه أو صدره أو جناحه في
أية لحظة...
وقفتُ كالطير البحري
الظمآن الجائع وأنا أردد في سرّي: ثلاثون سنة من السحر يا الله وأنا صابر كنبي،
ثلاثون سنة من مقاتلة الشياطين بالآيات والذكر ولم انتصر حتى الآن، ولما جاء الرقم
ثلاثين على لساني بدأتْ دموعي تطفر من عيني غصباً، وتنزلُ في النهر، وتنضمُّ لمائه
وماء المطر، صرنَ ثلاثة أنواع من الماء، ماء سماء، وماء نبع أرضي، وماء قهرٍ لعين
بشرية، وصرتُ أرى الشياطين بأجسادها العارية السوداء تسبح بلمعان آسرٍ في نهر الخَدود،
تسبح سريعًا دون أن تزعج الماءَ لتلتقطَ الأسحار التي رمتها النسوة في قاع النهر؛ النسوة
اللاتي غادرن الجسر قبلي، وربطنها بالحصيات لتركس في قاعه الرملي، تسبحُ لكي تفوز
بأن تكون خادمةً لأسحار النسوة، فأسحار النسوة أكبر نفعاً للشياطين من أسحار
الرجال التي غالباً ما تكون تافهة وسريعة الحلّ، إن أسحار النسوة سوداء تستحق أن
تتنافس الشياطينُ عليها وتتقاتل من أجلها.
واقفٌ على الجسر ولا
أدري كيف حصلتُ على امتياز رؤية الشياطين تسبح في النهر دون غيري ممن يركبون
فوقه؟! فهل سكن جسدي جنيٌ وبتُّ أرى المشهد المثير بعينيه؟!.
ولكن مهما أقول فإن
لوحة سباحة الشياطين كانت جميلة للغاية، وفكرت أن أطلب من صديقي الفنان "حزمي"
أن يرسمها لي، وأن أعلّق اللوحة فوق الجسر، لعل النسوة يخفن عندما يرين الأسحار
الراكسة، ويرجعن بسحورهن الجديدة من حيث أتين بها.
ناديتُ في ليل الحسا المطيّبِ
بحبات القرنفل وأعواد القرفة، وأوراق الغار التي احتضنتها قدور العشاء التي رُكّبتْ
فوق المواقد، وبأوراق الريحان الطرية الخضراء التي عطرت البساتين وزينت واجهات
البيوت وشعور البنات ونُثرتْ فوق أسرة الأزواج، والمطيّبِ بروائح الهيل والزعفران
الفارّة من أفواه دلال القهوة عندما تُفتح مساءً للضيوف للسكب في الفناجين، ناديت "حزمي"
الذي يسكن في عريشٍ شيّدَهُ بيديه في بستان من بساتين النخيل التي جاورت نهر الخَدود
بصوتٍ عبثَ القهرُ بقوّته:
-
يا حَزمي ، يا مِحْزَمي،
إن الشياطين تسبح في نهر الخدود بلون لا يوجد في ألوانك التي بالعريش، ولا يسكن في
قلبك، ولا على وجهك، لقد أسميته اللون الإبليسي، لون لم تجُدْ به الطبيعة لا في
جسد حيوان، ولا في جسد طير، أو في جنس جماد أو في جنس نبات، فلا هو بالأسود الفاتح
ولا بالأسود الداكن، إنه مزيج من ألوان قلوب نساء ساحرات، وألوان وجوه رجال
كافرين، لون مستخرج ومستخلص من عصارات حقد وحسد وكره وشك وخوف وغيرة ونفاق، لذوات
بشرية تخلّقت في قرون عديدة، وفي عصرنا هذا، لون به جزء من حسد قابيل، وجزء من وجه
فرعون، وأجزاء من غيرة أخوة يوسف، وجزأين من قلبي ريا وسكينة، وجزء من غرور
النمرود...
ناديت "حزمي"
فسمع النداء، وفرّ من عريشِهِ ومن لوحته التي سمّاها "بعث المهدي" والتي
أوشكتْ أن تكتمل بلا لون أسود، وجاء إلى الجسر بثوبه الملطّخ بالأصباغ يحمل صندوق
ألوانه وفرشاته، وهيأ مرسمه الحر، وابتدأ يرسم لوحته الجديدة "سباحة الشياطين"
بالوصف الذي أمليتُهُ عليه، وباللون الجديد الوحيد الذي اكتشفناه معاً، يرسم
ويسألني:
-
منذ متى وأنت هنا؟
-
منذ أن أكملتُ ثلاثين عاماً
من السحر، منذ الليلة!
-
ولِمَ جئت إلى هنا؟
-
لقد ظننت أن نهر الخَدود
مغتسلٌ بارد وشراب.
-
وماذا وجدتَه؟
_ وجدتُه مرتعاً للأسحار
السوداء، ومشرباً للنخيل فقط، فتراجعتُ عن غمس جسدي فيه، وعن فتح فمي لأكرع جُغمَ
ماءٍ كما تراجعَ طيرُ البحر الأبيض من قبلي.
الأحد
20 نوفمبر ٢٠٢٢ م
26
ربيع الثاني ١٤٤٤ ه
الساعة
٤:١٨ مساء
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق
I am happy to read your opinion or suggestions