-->

حول سحر العبور، قراءة في مجموعة العبور لناصر الجاسم- طاهرة آل سيف

 حول سحر العبور

قراءة في مجموعة العبور للكاتب ناصر سالم الجاسم



طاهرة آل سيف- السعودية

حينما نقرأ أدباً قصصياً متينًا، تصبح مفرداتنا هشّة في محاولة وصف الأثر الذي يظل متغلغلاً ما بعد القراءة، وهذا ما حدث مع قراءتي لهذه المجموعة، وورقتي هذه عبارة عن تأمل متواضع في تفاصيل الصنعة والبحث وراء الدهشة التي منحتني إياها..

وبدءًا بالعنوان "العبور" يقول عقبة بن نافع حين عجز عن عبور المحيط الأطلسي: "اللهم إني أشهدك ألّا مجاز، ولو وجدت مجازاً، لجزت.."، والعبور في أحد معانيه تحقيق الانتقال من شيء إلى آخر، أو من مكان إلى آخر، ويسعني تأويل المعنى في ضوء هذا العمل الفني أنه انتقال من مشهد معين للقصّ إلى مشهد أعمق تلقّياً وأمضى واقعاً..

في إهداء المجموعة لأنثى الشعر والبن والمراعي المجدبة، نستقرئ مطلع الحكايات، فهي تدور حول نظرة الرجل للمرأة، حول المكان، وبالتالي المعتقدات المرتبطة به والذاكرة والحنين ومشاعر الإنسان.


*الفضاء القصصي:

وحيث أن الحكايات ابنة مكانها، تحضر القرية وهوية المكان بقوة في كل قصة، حيث استثمره الكاتب بكل معالمه، حتى إنه- كثيراً من الأحيان- كان جزءاً ومفتاحاً للحكاية كما في "النهر والعبور" و "قنوات الري والغريب"، "لفيف النخيل في النخلة والعجوز"، "ذاكرة المطر"... نرى أن الفضاء أدّى غرضه في جملة من المشاعر الحسية، فملأنا الكاتب بـ "الخوف، التوتر، الحنين، التعلّق، الموروث"، بل وأحضرها أمامنا، كتبها ولم يكتب عنها، فهو كتب الحزن ولم يكتب عنه، وهكذا في كل المشاعر التي أرادها.. ومن خلال لغته الرصينة استطاع أن يدرج الكثير من العادات والمعتقدات الاجتماعية والفلسفة الداخلية للشخصيات ووجودها.

في المكان كان للكاتب اشتغالٌ حركي وحيوي بارز للحياة المصاحبة للأبطال، تلقّينا الكثير من معالم كل شخصية دون القول المباشر عنها، الفضاء كان تصويرياً بعدسة دقيقة، ولم يكن مجرد خلفية مسطحة وباهتة مماشية للأحداث.


*الشخصيات

يقول آرنست همنغواي: "يجب على الكاتب أن يخلق أشخاصاً أحياء، أشخاص وليس شخصيات، الشخصيات ما هي إلا كاريكاتير".

الشخصيات المشغولة تتميز بأنها شخصيات أكثر حقيقة وقرباً، لأنها تستمدّ وجودها من الواقع المعيش، وقد نجحت الشخصيات في إثبات وجودها سيما الأعمى وبشر وهتمي والشيخ وصولاً بدعلوج والبدوية وعشبة، كلها نابضة وحية وقادرة على الإقناع سيما أسماءها المنتقاة بموالفة المكان والزمان والحدث، ولعلها لقربها مني استشعرتُ أنها شخصيات سكنها الكاتب أو سكنته، وخصص لها أجزاء من مشاعره وأفكاره مشكّلاً ما يعرف بالتقمّص، مما جعلنا نكتشف أبعاد غائرة وعوالم بعيدة من خلالهم، بل وتقمّص كل ما يصادفهم في الطريق من ناس وباعة وجوالين.

يقول أورهان باموق: "سواء كانوا الأبطال أقوياء أم ضعفاء فنحن نحتاجهم لاكتشاف عوالم جديدة وأفكار جديدة".


*في جمالية الحسّ

هذا العمل في أحد تمظهراته الفنية كان في الارتحال بالحس إلى التجريد أو إلى الميتافيزيقا، بحيث يبدأ بتفاصيل الحياة الاجتماعية المحسوسة وينتهي إلى المعنى المجرد، وإذا كان ذلك المعنى يحتاج إلى تجسيد فيمكننا تجسيد ألم الخيانة في قصة "عزاء الأموات"، والعشق المستحيل في "عاشق البدوية"، والشغف والأصالة مجسدة في هتمي في قصة "قارع الطبل وطائر الليل"، وكل قصة وما تتحدث به من معنى متقن ورصين أدّت الغرض..


*سرّ الإدهاش

ويكمن في قوة التفاصيل التي تولّد منطقية النص، كان الكاتب بارعاً، يلتقط الحقائق بدقة ثم يزرعها في مجموعة من التفاصيل الصغيرة- أو فلنقل اختلافات- ذات حضور حسي، مما جعل اللامعقول معقولاً؛ كالمعتقدات في قصة "العرّاف والوزغ" وفي الجن والمس والمتناقضات في قصة "لحد في القلب"، حتى إننا في كثير من الأحيان نصدّق أن هذا معقول بل مطلب!

وبالمجمل نلحظ أن الكاتب يظهر حساسيته تجاه كل ما هو صغير ، ومنها ينفذ إلى ما هو أكبر، فكل الموضوعات والثيمات الكبيرة تكمن في التفاصيل الصغيرة، ويظهر ذلك في الحوارات المدرجة بين الشخصيات والأفكار المراد طرحها وتوزيعها على أركان كل نص بنسق سردي ماتع.

وكما يقال في علم الكتابة السردية: "الانتباه للتفاصيل يبقينا صادقين".


*قوام القصّ

ارتكز الكاتب على أركان مميزة مما جعل السرد ذا نَفَس خاص، في حين أننا نعرف أن القصة غالباً تتكون من الشخصيات والحبكة والزمكان، اعتمد الكاتب على السرد والوصف والحوار في أغلب القصص إن لم يكن في جميعها، من غير أن يخلّ ذلك بتنامي الحدث ونمو الشخصيات، ونلمح ضبط الإيقاع السردي بين تلك الثلاثية "السرد- الوصف- الحوار" حيث يتوقف عن فعل السرد في مكانٍ ما ويمنح اللغة والوصف وقتهما والحوار وقته مما يجعل القارئ يقع في غواية القراءة حتى آخر صفحة.


*اللغة

متمكنة مطواعة للزمن والشخصيات المتناولة والأفكار، حفلت بجمالية وحضور خاص في كل نص.

الاقتباسات كثيرة والحديث يطول لا يتسع لإعجابي بهذه المجموعة الثرية، والتي أشيد بها لكل من أراد أن يكتب قصة، فهكذا يُكتب السرد، الشكر الجزيل للكاتب.

بيت السرد- الدمام

20/ 3/ 2023


هناك تعليق واحد

  1. أبدع قلمك في تلك الليلة السردية الماتعة / ليلى ربيع ♥️

    ردحذف

I am happy to read your opinion or suggestions

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *