-->

الوكالة الإخبارية الثقافية "نخيل عراقي" تنشر قصة "النخلة العجوز" للقاص والروائي ناصر الجاسم

الوكالة الإخبارية الثقافية 

"نخيل عراقي" 

تنشر قصة "النخلة العجوز"

 للقاص والروائي ناصر الجاسم



النخلة العجوز

المصدر من هنا

 

السعفات الرمادية اليابسة انحنت ميتة على جذع النخلة العجوز . . الهواء الخفيف يمنحها فرصاً قليلة لتقبل بعضها البعض . . الريح تفرق بينها بإسقاط من تختار منها . . القارض الشره يقرض في طلعها المكتسي بصفرة الموت.. الشلولو والعقنقر ينخران في الجذع، والفئران تتسابق فيما بينها للانفراد بغرفة من الغرف المحفورة أسفل الجذع . . سعفات يابسة وأوراق متقوسة وحشائش ميتة وأشجار عارية جمعت وطمت بالثرى وأشعلت فيها النار، فتصاعد الدخان الرمادي برائحته المحببة إلى أنوف القرويين.. الحشرات والأعواد تصرقع في بطن النار وحميّان يذر عليها الثرى بأصابعه حتى يطمئن إليها . . وضحى علقت عباءتها اللاصقة بها تمرة مهروسة والممسوح فيها مخاط جففته الشمس على سعفة خضراء من سعف نخلة قزمة مثلها وراحت تقطف أوراق النعناع التي غرس حميان أشجارها من أجلها، تقطف الأوراق وتجمعها في ملفعها و هي تبتسم في صمت وتتذكر جملة حميان:

- أحب رائحة فمك عندما تشربين الشاي المنعنع..
كانت منشرحة الصدر لأن حماتها ستقوم بالطبخ عنها وبودها لو أنها استطاعت أن تنتقي لها شيئاً من أعواد الريحان إلا أن أنانيتها وغيرتها تدفقت في تلك اللحظة، فحميان لا يحب رائحة الريحان في مخدعه ولا يطيق رؤية عناقيده في جديلتيها الطويلتين.. إنه يزرعه ليبيعه في أعراس القرية..
فياض ألقى بكتابه على أعواد البرسيم فكسرها.. حلت فراشة ملونة وفرشت جناحيها على الكتاب.. ركب فياض المرجيحة المربوط حبلاها في جذعي نخلتين متوازيتين.. وجعل يتأرجح و يسترجع بصوت عال ما حفظه غير عابئ بصياح أمه وإصرارها على خلعه الثوب كيلا يتسخ.. توحيد الألوهية هو أن . . . وتوحيد الربوبية هو أن . . .
غرف حميان بكفيه ماءً اصطبغ بالاخضرار من برميل ثقبه الصدأ ونضح به وجهه المغبر ومسح براحتيه على عضديه ليرطبهما من آثار الأعواد اليابسة وجروحها التي أبانت الدم ولم تنزفه، وألقى نظرة تحسر على النخلة العجوز الوقف الأكبر منه عمراً، وتنهد لعجزه عن بعث الحياة فيها من جديد.. رأى (الكر) معلقاً على مسمار طويل مدقوق في جذعها واتخذ قراراً رده جيرانه من الفلاحين عنه.. أراد أن يقوي عزيمته ويزيد من أمله في بعث الحياة إلى النخلة بتنظيف أسفلها من أعدائه المحتمين بداخلها فقام بنقل جذوة من النيران التي أشعلها وقربها من فتحات الغرف المحفورة فيها، فخرج من خرج ثم أمسك بآلة حادة وبدأ في انتزاع الفاسد من الجذع حتى أتى عليه.. شد (الكر) حول ظهره ورقى نصف النخلة و تنحنح لينبه النسوة المزروعات في الحقول المجاورة لحقله ليتغطين ويسدلن عباءاتهن على رؤوسهن وظهورهن فلا يكشفهن وهن يجنين الرطب ويقطفن الريحان ويستعددن للاستماع له والعمل على أنغام صوته وهو ينهم، ولربما ظنت إحداهن أنها المقصودة بالغزل والنهم بما فيهن وضحى زوجته.. وقد يسمعه أحد جيرانه من الفلاحين فيصعد إلى إحدى نخلاته دون حاجة فيها سوى أن يأنس بجيرته ويستشيره أو يستفتيه في أمور الري والإعمار والغرس ومواسم الإنبات والصرام..
هلل حميان حينما أمسك بطرف واحدة من السعفات اليابسة وصار يشدها لتسقط وهو مطمئن إلى قوة الكر الملفوف حول ظهره.. وبدأ القلق يغزو قلب وضحى بينما واصل فياض التأرجح بانبساط جعله يطيل بشد ساعديه من طيرانه في الهواء.. حميان ينهم والسعفات تتساقط أسفل النخلة و هو يدور بكره على جذعها ليتتبعها:
عليل و نومــــــة افراشــك دوا لي​​
كيف تنعت لي دوا و أنـــت دوا لي
ويواصل:
يا صاحبي زل الشتا و اقبل الصيف​
غديــــت مثل العذج بين بي اللون
ولم يتوقف عن النهم حتى رأى جاره (منحول) يحييه من وسط حقله فوق نخلته المحبوبة (الرزيزية) رافعاً له منجله، فرد عليه تحيته ببيت من الشعر يحب سماعه بصوته:
أعد الليــالي و الليالي تعدني​​ 
عمري تنحــل و الليالي مكانها
- هل جننت يا بو فياض لترقى هذه النخلة الطويلة؟
- الحج والمرض أبعداني عنها.. فذبحها القارض والشلولو والعقنقر.
- الله يستر ويسلم،  قلبي بدأ يرتجف.
- أوصيتك عليها من قبل الحج وفي المرض لكنك أهملتها.
- أنت تعرف.. الطويلة ما أقدر أرقاها.
استعصت سعفة من السعفات على حميان فشدها بعنف وانقطع (الكر) فهوى على ظهره . . انطبعت مؤخرته و قدماه في الثرى . . نطّ فياض من أرجوحته وهو طائر فانكفأ على وجهه و قام مسرعاً إلى أبيه . . شهقت وضحى فانتثر النعناع من ملفعها و ركضت إلى زوجها.. سمت باسم الله وتفلت مكان وقوعه وأسرعت نحو برميل الماء وغرفت منه بكفيها ورشت على رأس زوجها ومكان وقوعه، ثم وسدت زوجها حجرها وأنشأت تصفق وتصيح وحميان يتنفس نفخاً وابنه فياض واضع رأسه بين قدميه وواضع راحتي يديه على ركبتيه و يبكي.. تعاون الفلاحون على حمل حميان إلى بيته.. توقفت وضحى عن الإنجاب ولم يتوقف حميان عن زيارة حقله و نخلته.. فهو يقول دائماً عند لومه على الزيارة: ما دمت أشوفها ما أقدر على فراقها.
TAG

ليست هناك تعليقات

إرسال تعليق

I am happy to read your opinion or suggestions

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *