-->

قراءة انطباعية في رواية "العاصفة الثانية" لناصر الجاسم- بقلم الكاتبة المصرية هدى توفيق

قراءة انطباعية في رواية "العاصفة الثانية" 
للقاص والروائي السعودي ناصر الجاسم
بقلم الكاتبة المصرية هدى توفيق



ناصية قراءة:


صدرت رواية العاصفة الثانية للكاتب السعودي ناصر الجاسم عن دار نشر (نادي المنطقة الشرقية الأدبي -الدمام -المنطقة الشرقية – السعودية-مطبعة الشرق ط1 / 2018م).
وفي الرواية المذكورة نتابع تجسيداً تاماً وكاملاً عن حرب الخليج الثانية التي انتهت في شتاء 1990م. بطلها اللامسمى أي المجرد من كل حيثيات الادعاء باسم محدد له غير لقب جندي المشاة طوال السرد الروائي، وتلك الرمزية المقصودة بعدم ذكر اسم معرف له داخل السرد لعبت دورًا فنيًا كبيرًا في اثراء التفاعل الإبداعي ورمزية تأويل الخطاب السردي بقدر عال. فجندي المشاة رجل الحرب الشجاع المغوار المحارب المجهول دوماً في صنع بسالة الحروب والانتصارات وحتى الهزائم هو في كل الحالات يُدعى بالجندي المجهول، الذي يدفع الثمن كاملا كل على حد سواء، لا اسم له فهو مجرد من اسم غير قيمته الثمينة والنفيسة والتي لا تحتاج لذكر اسم يؤطره أو يحدد مدى مكانته العالية والغالية في نفوس جميع البشر بمجرد فقط أن  نذكر معرف الهوية بالجندي المجهول، فهو ببطولته وشجاعته صنع رمزه الواسع والكبير مما يعجز الجميع عن تعريفه باسم معين في قوائم الحسابات الحربية الاستراتيجية واللوجستية والتكتيكية في فنون الحروب؛ لأنه رمز للحرية والعدالة والنضال والكفاح، هو رمز الوطن أغلى ما في الوجود بين جميع أبناء البشر في جميع أنحاء العالم دون منازع أو مزايدة أو تشكيك ببدلته وحذاءه العسكري تتناثر عليه غبار ودماء المقاتلين الأعداء تصرخ وتصرخ بكل قوة: أنه فداء وشهيد الوطن بمجانية غير مشروطة وغير معللة وغير مسماه.
يشير بول ريكور في كتابة "الزمان والسرد"(1) إلى أن: "يصير الزمن إنسانيا بقدر ما يتم التعبير عنه من خلال طريقة سردية ،ويتوفر السرد على معناه الكامل حين يصير شرطا للوجود الزمني.(2)، وهذا يفسر- في رواية العاصة الثانية- أن الزمن أصبح تجسيداً حيًا نابضاً عن تعبير إنساني واسع المغزى بتلك الاستدعاءات الحضورية للسرد الإبداعي بقدر كبير؛ لأنه ارتبط بحالة الحرب المؤسفة التي تعرض لها بطلنا-  جندي المشاة- ورفقاؤه في ذلك الزمن بالتحديد وفي تلك البقعة الجغرافية بالذات، إنه زمن الحرب الموحش حتى في حالة الانتصار من عدمه.
في نهاية الأمر تلك التجارب التأريخية عن الحروب دوما ما تطرح العديد من المأسي الإنسانية لخسارات عديدة أهمها هذا الإنسان سواء بالموت أو فقد جزء من أجزاءه الجسدية مثلما حدث لهاشل عندما فقد ساقه وغيره من رفقاء الحرب أو الموت البشع التصور مثلما حدث لمتعب الشاعر الجميل عندما انفجرت رأسه من قذيفة لاهية عابثة غادرة، والعديد من الخسائر من ضحايا الحرب اللعينة التي لا تُعد ولا تُحصى، فالقادة المدنيون المترفون كما أطلق عليهم الراوي الضمني طوال السرد الروائي لا يهتمون إلا بالخرائط والحسابات العملية في قوائم تُحصي عدد الشهداء والناجين والمفقودين، لأنها دائرة ملعونة ملغومة بالبارود والهاون وقذائف الموت والفقد لا شك في ذلك رغم كل ادعاء تحت عنوان الواجب الوطني، الحقيقة التي دوما ما سخر منها بطلنا جندي المشاة أثناء السرد الروائي داخل القصة الحقيقية وهي حربه مع نفسه للانتقام من (الشبح والموبوءة) بجانب الحرب من أجل الوطن، وهنا يصبح الزمن شرطاً أساسياً لتعميق السرد الروائي والتأويلي كما أشار ريكور إلى حد كبير، إذا أُجيز لنا هذا التأويل داخل النص السردي المقام أمامنا.
نبدأ من عتبة النص بالإهداء التالي (إلى من لا يقدرون على البكاء) فبراير1993م(3) وحتى يُفصح الإهداء عن مغزاه المؤلم لابد أن نقرأ ونتابع سير السرد بشغف وامتنان إبداعي قائلا على لسان حاله: 


"آخر الأمطار كانت.. آخر الأمطار في شتاء 1990م، تغسل الساحل الشرقي، استمرت تهطل ثمانية أيام، تغسل جثث القتلى، تثبت التراب على المقابر الجماعية، تبعد الذباب والضواري عن الجرحى المتعفنين، تبطل الألغام المزروعة في النفوس، تصفي السماء من دخان الآبار المحروقة والأعيرة النارية والبارود.."(4).
ويستطرد السارد الضمني الذي ليس هو بأي سارد إنه أشبه بمحارب كل أزمنة الحروب السابقة واللاحقة شاهد على تاريخ الحرب في أي بقعة جغرافية في كل مكان يُبتلى بنيران الحروب الملعونة، إنه بوق الحرب المطلق ينفث ألامه لمعنى الإنسان الواحد بمختلف أطيافه وهويته وقوميته وجنسيته، فهو جندي مشاة كل الحروب البغيضة المفجعة رمز جميع الجنود الكامل والتام دون تمييز أو تعريف لاهٍ وعابث داخل أفواه الحكام والقادة العسكريين والبؤساء والضعاف والمهمشين وحتى الأقوياء ودجالين الكلمات والإكليشهات الرنانة وكل الادعاءات المبهمة والمغرضة. إنه خارج كل الحسابات والإسقاطات إنه فقط لا غير جندي يحمل سلاحًا وروحه فداءً للوطن والجميع. تلك الروح المعذبة والشقية بذكريات الحرب من برد وجوع ووسخ وروائح كريهة وصوت الرصاص الحي وقذائف الهاون هي ماضيه ومستقبله، فهو في كل دقيقة في مواجهة طاعنة مع القتل والأسر والشهادة؛ إنه ألم لا يضاهيه ألم إنه خضوع مباغت فاجع يجعل ما من قدرة حتى على البكاء. البكاء الذي هو أقل الحقوق الطبيعية للبشر لا يستطيع أحد ألا يمنحه لك أو يمنعه عنك هنا في العاصفة الثانية يصبح عصيًا بعيدًا، ويتحول لرجاء وأمنية البكاء وامتثال الضعف الإنساني المشروع  يصبح بها عاجزاً عن القدرة حتى على البكاء لأنه بكاء عميق واسع المدى وممتد؛ لأنه بكاء حار وموجع على كل رفقاء الحرب، لكل الجنود في كل أنحاء العالم في كل الحروب، بمشاعر جندي مقهور لابد أن يتظاهر بالقوة وأحاسيس تكون متجمدة باردة برودة الصقيع، وهي تستقبل الصدمات بجوف ملتهب تطغى عليها نيران تلك الحرب الملعونة من غربها لشرقها ومن شمالها لجنوبها حروب ملعونة مجنونة ماحقة بأهوائها الساحقة المهداة إلى: (من لا يقدرون على البكاء)، وليؤكد جندي المشاة استطراده:
"...الأمطار تصر بعناد على تطهير كل شيء والبرق يغرز أنيابه في ظهور الآليات بعناد أكبر.. الطبيعة تعبّر عن كراهيتها للحرب على طريقتها الخاصة..." (5).
لكن ماذا عن (ثالوث المحاكاة) الذي استوضحه ريكور في كتابه (الزمان والسرد) (6)   يشير ريكور قائلا:(سأتخذ من عنصر الربط المذكور أعلاه (أي ثالوث المحاكاة)، الذي سبق لي أن أوضحته جزئيا في تأويل "فن الشعر" لأرسطو تأويلا جزئيًا، دليلاً لتوسيع الوساطة بين الزمن والسرد، وبين لحظات المحاكاة الثلاث التي سميتها جادًا أو لاهيًا بـ : المحاكاة 1، والمحاكاة 2، والمحاكاة 3 ـ وسأعتبر أن من المفروغ منه أن المحاكاة 2 تشكل محور هذا التحليل . فهي كذلك من حيث هي نقطة انعطاف تفتح عالم الحبكة، وتنشئ كما اقترحت سابقًا أدبية العمل الأدبي.) (7)
 ويستكمل ريكور: (فأنا أعني أن المحاكاة 2 تستمد معقوليتها من قدرتها على الوساطة، التي شأنها أن ترشدنا من جانب من النص إلى آخره بقلب الأعلى إلى الأسفل من خلال قوتها على التصور.)(8) وهنا يعني ريكور تطبيقًا على رواية العاصفة الثانية أن عملية التصور الإبداعي والسردي التي أبدعت هذه الحبكة الروائية، هي تمتثل نتيجة للموقع الأوسطي أو كحبل وساطة هام وفعال ومؤثر للغاية لما بين ما أسماها المحاكاة 1 أي الزمان والمحاكاة 3 أي السرد، وهي تجسيد عنوان بحث ريكور (الزمان والسرد)، وهذه المواجهة بالبحث والتنقيب عن مدى قيمة هذه الوساطة أي المحاكاة 2 (ما نطلق عليه الحبكة والتي أطلق عليها ريكور: الحبك عند أرسطو.) وهو من الممكن اعتباره (سمة مميزة لسيمياء النص.) (9)، وهذا بالفعل محور هام في النص الروائي المذكور يحيلنا على مقولة بارت عن لذة النص داخل سيميائية العمل الإبداعي. بين التقابل بين حرب الوطن الطاحنة وبين حرب جندي المشاة الداخلية، فجندي المشاة لا يحكي لنا فقط عن الحرب في وطنه بل يحكي لنا عن قصة أخرى تماما تلازم وجود هذه الحرب، وهي حرب أشد قساوة وشراسة فهو لم يُقتل في الحرب، حتى العمى أصابه من جراء فعل أخر حدث له مصادفة أثناء مطاردته للشبح الخائن في الجبل ليلا. إنما قُتل من أشياء أخرى أكثر مرارة وقسوة من أسلحة المصانع الفتاكة، وتلك الذكريات المشؤومة تلهو به كأرجوحة تهبط وتصعد بأفكاره العاصفة كحرب العاصفة الثانية، وهو يتخيل (دفء السرير- ورائحة العطر التي تكفي لعرس كامل)(10)، وهو يقول بمرارة العاشق الذي خانته حبيبته وزوجته:

(أشياء تصنع في المخ وتخطط بقلمه وتنفذ بطريقة متقنة يصعب على الجاسوس العتيق اكتشافها.) (11)
 وهو يعاني عذابات الخيانة ممن أطلق عليها الموبؤءة، ويطارد هذا الخائن الذي أطلق عليه الشبح هذا البغيض الذي انتزعها من أحضانه وجذبها لدفئه وعقله وقلبه. جندي المشاة يحارب من أجل الوطن الكبير في عمق وطنه الصغير، ليقتل الخيانة والدناءة. إنها حرب شاملة ليست فقط حرب برية بالبارود والهاون والقنابل أو جوية بالطائرات التي تحمل القذائف والصواريخ الحارقة المدمرة، إنه يحارب سر الوجود نفسه بدنس تلك المرأة الخاطئة مع شبحها الذي يطارده في الجبل لأكثر من ستة شهور، وقد احتضن الطبيعة من جبال وأمطار ورياح وضباب ونهار وليل وعاش في الكهوف الباردة، وصنع الخنادق بعد أن أقام حسن الجوار مع الأرانب البرية حتى تسمح له بصنعها لنفسه، وعاشر الحيوانات المفترسة والسامة والبريئة كل كائن حي وغير حي من أجل الثأر والهلاك والمزاج الانتحاري الذي استحوذ عليه قائلًا:
(شهوة القتل تتسع في نفس اتساع الصحراء، غبار الجنون ينتشر في الهواء حولي، كنت أتنفس هواءً مجنونًا، الشبح هتك قلبي ... جرح عقلي... من أعطاه الموس ؟)(12)
الإجابة تلك الموبوءة هي من أعطته موسًا حاداً بل قاتلًا، تلك الموبوءة التي سحرته في السوق بجمال عيونها وتضاريس جسدها الفاتن حتى هوت به في قاع الرغبة واللذة ثم سحقته سحقا بالشك حتى تأكد من خيانتها بكل برود وعفن وغدر. إنه أشبه بهاملت الشقي الذي يُدميه زواج أمه من عمه قاتل أبيه حتى يظهر له الشبح، ويخبره بالحقيقة فتحوله إلى قلب مفعم بنيران الضغينة والكره والحقد الدفين وشهوة الانتقام تصبح هدفاً وغاية للعيش، وتنفس رشقات الحياة من أجل تنفيذ الانتقام، ما من سبيل للهرب والتحرر من طغيان الرغبة المسمومة إلى حد الهوس والجنون الانتحاري، فجندي المشاة كاد أن يموت أثناء مطاردته الأخيرة للشبح.
إن هاملت العاصفة الثانية الحائر المدحور بألم لا يصلح معه أي تطعيم مثل بقية الجنود للتطعيم ضد الحزن والاكتئاب في المعركة، لكن جندي المشاة لم يتقبل دمه هذا التطعيم فحزنه طاغ يملأ عقله وقلبه حتى تحول لسقم لا شفاء منه بأي تطعيم، وسخر قائلاً على تطعيم هؤلاء المدينين المترفين الأوغاد:

(أما أنا فدمي يقبل الحزن، يقبله إلى حد اللهفة... ثمة توافق بينهما في البناء الفسيولوجي، الحزن صالح لدم العاشق والشاعر والعابد.) (13)
إنه أيها المدنيون المترفون حزن لا يعالج بأي تطعيم، أنتم أيها المدنيون المترفون الذين لا تقدرون حزنه الذي يفوق كل تطعيماتكم، إنه هاملت العاشق هاملت المخدوع هاملت المليء بالفجيعة إلى الحد الذي لا يستطيع بها حتى القدرة على البكاء أو يؤثر فيه هذا التطعيم العابث، ومؤنسه الوحيد هذا الليل الذي يخاطبه بشجن الشاعر المحب:
(والليل ككل شيء أسود يستر، إنه ضدّ الفضيحة، ضد السخرية القافزة من العيون النائمة، عيون المقاتلين التي ترصد كل شيء، الليل أب العصاة الحنون، مربي الصالحين والعشاق والخطائين، يطوي ثوبه بهدوء حمامةٍ عجوز، الشمس المفتونة بالحياة ترسل شواظاً تكسره آخر السحب، فيأتي مقلم الرؤوس، غير مؤذٍ للعيون التي اعتادت رؤية الموت والوهج.. ) (14)
وهنا كما أشار ريكور:(وهو تحديدا أن علم النص لا يمكن تأسيسه إلا على تجريد المحاكاة 2، ولا يأخذ بالحسبان إلا القوانين الداخلية للعمل الأدبي، دون اعتبار لجانبي النص. ووظيفته التأويلية (الهرمنيوطيقا) بالمقابل هي إعادة بناء شبكة العمليات التي يرتفع بها العمل الأدبي فوق الأعماق المعتمة للحياة والتصرف والمعاناة لكي يعطيها مؤلف ما إلى القراء الذين يتلقونها ويغيرون بالتالي أساليب تصرفهم. المفهوم الفعال الوحيد، عن النظرية السيميائية، هو مفهوم النص الأدبي. لكن التأويلية (الهرمنيوطيقا) تهتم بإعادة بناء القوس الكامل للعمليات التي تزود بها التجربة العملية ذاتها بالأعمال والمؤلفين والقراء، فهي لا تكتفي بإقامة المحاكاة 2 بين المحاكاة 1 والمحاكاة 3. بل تريد أن تحدد سمات المحاكاة 2 من خلال وظيفتها التوسطية. ولذلك فإن ما تراهن عليه هو العملية الملموسة التي يتوسط فيها التصور  (configuration)   النصي بين التصوير السابق(prefiguration   (للحقل العملي بإعادة التصوير (refiguration ) من خلال تلقي العمل وسيترتب على ذلك في نهاية هذا التحليل، أن القارئ هو العامل الفعال الذي يشرع من خلال فعل شيء ما ـ هو فعل القراءة ـ بوحدة الاجتياز من المحاكاة 1إلى المحاكاة 3عن طريق المحاكاة 2 ويمثل هذا التركيز على حركية الحبك بالنسبة لي مفتاح مشكلة العلاقة بين الزمان والسرد.)  مفسرًا أكثر:(ولحل معضلة العلاقة بين الزمان والسرد ينبغي أن أقيم الدور التوسطي للحبك بين مرحلة التجربة العملية التي تسبقها، والمرحلة التي تتبعها.) (15) ويستكمل مشيرًا (لذلك فنحن نتابع مصير زمن مصوَّر سابقا يتحول إلى زمن يعاد تصويره من خلال وساطة زمن متصَّور.)(16)، وعلينا الآن تفسير ما أشار إليه ريكور عن المحاكاة 3 والمحاكاة1 التي يتوسطها المحاكاة 2 ومدى أهمية المحاكاة 2 أي فعل الحبك بين المحاكاة 1 أي الزمن والمحاكاة 3 أي السرد في تأويل الخطاب السردي لرواية العاصفة الثانية، وهذا مجال حديثنا الأهم في الرواية المذكورة.
 وبادئ ذي بدء أولا الحديث عن المحاكاة1 في ضوء هذا الطرح الروائي المذكور يشير ريكور أن السمة الهامة التي يراهن عليها في بحثه هذا، والتي يسلم بها عن مدى فعالية دور المحاكاة 1:(فهو يعني بالعناصر الزمنية التي يطعُمها السرد بتصوراته. وليس فهم الفعل محددًا بألفة الشبكة المفهومية للفعل وألفة وساطتها الرمزية. بل هو يوغل حتى يتعرف في الفعل على البنى الزمنية التي يقتضيها النص، على هذا المستوى، تظل المطابقة بين السرد والزمن ضمنية.) (17)، بمعنى أن ذلك الوصف الجغرافي والتاريخي البارع داخل شبه الجزيرة العربية مرتبط فعليًا بزمن ميراث الأجداد والإرث البدوي العتيق داخل الجبال والهضاب حتى في ثنايا الأخاديد والنتؤات الصخرية، والسهول والوديان والنبات والحيوان والطير إنه قرين بالغ الثرى لمعني المحاكاة 1 أي الزمن فالسرد بكل تصوراته وتمثلاته التخييلية لا ينفصل عن مدى أهمية العناصر الزمنية ومظاهرها التي أبدعت هذا السرد، وتلك الحبكة الروائية قائلا بدم عربي كريم الجود والأصل نقي السريرة:

(والجبل البنّي الضارب إلى الاحمرار يحتلّ الغرب كله بسلسلته الممتدة، وسفوح وودیان صغيرة تختبئ خلفه من شيء ما... الجبل يحمي البلدة من السيل منذ ثلاثة قرون، جبل استقى منه أبناء البلدة الصبر وتعلموا من شموخه الشموخ ومن صلابته القوة والثبات ومجابهة كل شيء حتى الموت نفسه.)(18)
جندي المشاة الذي لا يكل من السير يختبر تجربته مع التاريخ والجغرافيا وسط هذه الطبيعة الوافرة والحادة الطباع، حتى أنه أحيانا ما يطلق أحكامًا عن الحياة والقدر قائلًا على لسان حاله :
(الحياة دروس والقدر مدرّس عبقري لا يملّ التعليم ولا يكلّ من الشرح.. .)(19)
وقائلًا أيضا:
 (لعنت نفسي لأنني لم أنم الليل في العربة، أمور كثيرة توجب اللعن بعد انقضائها، الفشل في وقت السلم مؤلم جدًا، اقتصار النجاح على وقت الحرب غير كاف، يجب أن يكون النجاح في السلم والحرب معاً، النجاح في أحدهما فقط ضعف.. مهم جدًا أن يؤدي الجندي في جميع الظروف بنسبة واحدة من الكفاءة لا تتغير.. )(20)
وإن كان ريكور لا يفيض بالحديث والبحث عن (فكرة البنية ما قبل سردية للتجربة.)(21)  مشيرًا :(فأقتصر هنا على فحص السمات الزمنية التي تبقى ضمنية في وساطات الفعل الرمزية، والتي قد نتخذ منها مخلقات للسرد.) (22) وبشكل خاص في تلك الرواية نجد أن لها طابعاً زمنياً محدداً، وهي تجربة البطل في حرب الخليج الثانية، وبالتالي ندعي حكمًا أن لديها خاصية بنيوية مميزة (عن خاصية بنية ما قبل سردية للتجربة.) كما أشار ريكور رغم عدم اعتباره كثيرًا بالبحث والافاضة في تلك النقطة، وأيضا نحن نضع علامة استفهام كبيرة هل هي تجربة واقعية ؟!أم تُروى من مخيال الراوي المتقن الصنع والمهارة الإبداعية؟! في الحقيقة تلك الأطروحة لا تعنينا كثيرًا أيضًا في تأويل الخطاب السردي ما دام المنتج الأدبي صدر في تشكيل روائي يحمل اسم رواية العاصفة الثانية، لكن بالطبع سواء كان السرد مجازيًا استعاريًا أو واقعيًا، فالضمني والمسكوت عنه في المحاكاة 2 هو شاغل بحثنا وتحليلنا بما أمامنا من طرح روائي مقروء، فنحن ندرك أنه كانت هناك حرب لكن أيضا لا نستطيع أن نطلق حكمًا يقينيًا عن ماهية الحقيقي أو المتخيل ؟! لأن الخطاب السردي بوجه عام ليس مطالب بتقديم- ولو بشيء عن مصداقية ما وراء الحكايات والأشخاص والأحداث؛ إنما هو في نهاية الأمر عالم فني روائي إبداعي خالص النية من أجل غاية محددة، وهي الصدق الفني العالي والمثير باللهث والشغف وراءه لتحقيق المتعة القرائية وذائقة التذوق الأدبي بالتمام والكمال لا غير. وهذا يحيلنا لما ذكره ريكور عن خاصية ما قبل سردية للتجربة قائلا:(نحن نروي القصص لأن الحياة البشرية في التحليل الأخير، تحتاج وتستحق أن تكون مروية وتتخذ هذه الملاحظة كامل قوتها حين تشير إلى ضرورة إنقاذ تاريخ المهزومين والضائعين. فتاريخ المعاناة بأسره ينادي بطلب الثأر ويدعو إلى السرد.) (23).
 ولتتمة ثالوث المحاكاة عند ريكور نتساءل ماذا عن المحاكاة 3 ؟! أي محتوى السرد ومدى تفاعله وأهميته مع الزمن والحبك في فضاءه التأويلي ليخدم اللعب الفني في السرد الروائي بلغة آسرة تفرز وافراً من التعبير بإعمال عقلي وروحي :(وذلك المحتوى هو أن السرد يمتلك معناه الكامل حين يرجع إلى زمن الفعل والمعاناة في المحاكاة 3.)(24) وهذا ما سماه ريكور بأنه أشبه بالعلاقة الدائرية التي تولد العلاقة بين المحاكاة 3 إلى المحاكاة 1عبر المحاكاة 2. (25) ما يستدعي الإشارة إلى التالي : (سأقول متبعا التعميم في إثر أرسطو، إن المحاكاة 3 تشير إلى تقاطع عالم النص وعالم السامع أو القارئ، وبالتالي، تقاطع العالم الذي تصوره القصيدة والعالم الذي يحدث فيه الفعل الواقعي وينشر زمانيته الخاصة.) (26)
السرد هنا في الرواية المذكورة تتابعي لدن سهل المنال يحوي قدراً كبيراً من الشاعرية بتدوال ثقيل المغزى والمفهوم على بطل حكايتنا المأزوم فعلا بوجيعة ضخمة، وينساب بأريحية ونفاذ من عمق الألم والمحنة التي يعاني منها الجميع، وليس فقط بطل الرواية فنحن في حرب وكرب وخسارات ممتدة رغم الانتصار والعودة إلى الوطن، لكن دوما ما يكون هناك خسارات فادحة، وبمؤشر الصدق الفني الذي لا مثيل له هو القادر على طرح سردي عال القيمة، فالكثير يذهب إلى الحرب وهم فيها كانوا أبطالًا بلا شك، والكثير يتعرض لتجارب الحب والزواج الفاشلة فهذه من أمور الحياة التي يعيشها الجميع، لكن  الحكي في رواية العاصفة الثانية سرد خلاق ليس بمجرد ثرثرة عن  حرب أو حب أو خيانة، إنه ملكوت من السرد الموحي والمفضي إلى تأويلات عدة ومحقة إبداعياً وفنياً في مأساة وملهاة هذا البطل مع: الحرب والموبوءة والشبح والطبيعة والحيوانات، مفردات عديدة تحمل من العنف والقسوة ما يبررها، وفي نفس الوقت تحمل عذوبة ومرونة ورشاقة السرد، فأنت متواطئ نفسيًا بتوحدك مع مشاعر وأحاسيس هذا البطل الهمام، وأنت تستشعر وتتلذذ بقراءة هذا القهر والعنف الشديد الضراوة لأنه مرويٌ إبداعيٌ  بمخيال يقظ ونشط الإيحاءات، وأنت تقرأ عن كل التناقضات بين نيران الحب والوجد  والخيانة ونيران الحرب البشعة في تلاقٍ مدهش قائلا على لسان حاله:

قفزتُ من العربة، لم ُيرد أحد تودیعي - النوم يهدّ أعتى العواطف - ولم أرد إيقاظ أحد، ربطت الحزام جيدا حول خصري، ثبت الخوذة في مكانها على رأسي، علقت سلاحي على كتفي، صرت أمشي مبتسماً والصبح يتبسّم معي، الإنسان أحيانا يبتسم لأشياء غامضة ومجهولة، وأحيانا يتكدّر بدون أسباب واضحة أو معقولة، قوة خفية تدير مشاعر وملامح هذا الكائن الذي لم يُكتشف جيداً بعد. رذاذ المطر الساقط على وجهي بنعومة زائدة ومطلوبة في كل شيء كان تعويضاً مناسباً ومجدياً عن قبلات المودعين والمستقبلين...)(27)
وحين كان يطارد الشبح في زريبة الأغنام تخيله كشبح يحبو على الروث :
(كان الشبح سريعاً بدرجة لم أتوقعها. عند اقتراب الموت أشياء كثيرة تظهر وتطفو بطريقة مذهلة.. ظلّ ينطّ من جدارٍ إلى جدار بسرعة قرد والرصاصات تخطئه، لم أتمرن جيدا على رمي الأشياء الطائرة...)(28)
ويتوالى السرد في تفعيل تصورات إبداعية ومشهدية التوصيف كأنها تصوب من كادرات سينمائية مدهشة، ومن خلال مكسيم الذي يعشق تصوير كل شيء حتى أنه صور ساق هاشل التي بُترت في الحرب، فكم من صور التقطها وأكثرها أثرًا صورة جندي المشاة وهو يزلق على جثث دماء الأعداء المقتولين  ساخراً حتى من نفسه: (أنا جندي المشاة المدرب على المشي في الطين والمطعم ضد الزلق.)  لكنه يزلق على دماء جثث الأعداء. ويتمنى مكسيم بعد موته أن يُدفن معه في القبر صورتان، واحدة لحبيبته هيلين المعراة، والأخرى لجندي المشاة أثناء زلقه على دماء الأعداء.
 ويتلهى بنا السارد الضمني بحيلة فنية بارعة حين يرغب أن يبث كرهه الشديد للحرب وبغضه من هؤلاء المدنيين المترفين، فيوجه لهم من حين لآخر خطاباً قاسياً مليئاً بالسخرية والمرارة ليخبرهم عن مكسيم الجبان (الديوث )، مكسيم أتى إلى الحرب لكي تفتخر به هيلين عند صديقاتها:

(أتى إلى الموت وهو يكرهه لترضى عنه هيلين في الفراش.)(29)
تريده أن يصبح مراسلاً مشهورًا لكي تشتهر. مكسيم ذلك الرجل الطيب القلب الذي لا يتخيل موت إنسان، ولا يحب الحرب:
 (مكسيم يقدس هيلين وأنا أقدس القتل...صمت الذئب إلى الأبد..)(30)
وأيضا جندي المشاة المطعم ضد الزلق زلق أيها المدنيون المترفون في براثن الموبوءة والشبح هذا الفحش الإنساني الذي لا يضاهيه فحش، ويعترف جندي المشاة قائلا:
(حين رأيت الشبح من بعيد انفجرت نباتات نار في المساحات المحصورة بين أضلاعي، تلك المساحات المحصورة باللحم القليل والشحم الأكثر.. وأنتم أيها المدنيون المترفون هل انفجرت في صدوركم مثل هذه النباتات النارية.. اجيبوا بالنفي حتى يكبر إحساسي بالعذاب، حتی يكبر كوكب الانتقام في صدري ويطغى على الكواكب الأخرى التي فيه ويختل نظام سیرها الدقيق وتحدث نهاية...)(31)
الرواية أشبه بسردية شاعرية كلما تابعتها التهمت حروفها بشغف، كجائع نهم ترغب أن تستزيد من لذة التصورات وبراح التخيلات وفضفضة الشفافية والأوصاف في مكامن وجودها سواء التاريخي والجغرافي والنفسي تغمرك كقارئ في غوص المتعة القرائية. بل إن جندي المشاة لم يزلق فقط على دماء جثث الأعداء، بل أيضا تأججت عنده شهوة القتل، التي تخرج من الرأس، خلاف المقاتلين الآخرين تخرج من صدورهم.. )(32 )، وذلك حين كتب اسمه بكل فجاجة وقسوة بالرصاص على صدر الجندي المعادي ، فجندي المشاة يقدس القتل لأقصى حد
(ومكسيم المفتون بالتاريخ صور الثقوب النارية التي شكلت مجتمعة اسمي .. صور حروف اسمي وهو ينزف على صدر الجندي المعادي...)(33)
وأن عليه أن يرى وجه من سيقتله لأنه لا يشعر بقيمة القتل إلا إذا حفظ وجه الجندي في ذاكرته.. بينما الجندي الجبان من يقتل من الخلف، وكأن الحرب ملاذه وسلواه ليفجر شهوة القتل والانتقام من الجميع، ليثأر ليس فقط من الموبوءة والشبح بل من كل الأوغاد وأعداء الحياة والشياطين الإنسية في شتى بقاع الأرض. لكن الحقيقة أنه ما كان كذلك وأن ما أصابه من هوس القتل وشهوات الثأر والانتقام كانت حالات عرضية ابتزها الألم ونكران وجحود من أحبهم مثل روحه، إنه شخص مجروح ومكسور لا أكثر أيها المدنيون المترفون، بينما جندي المشاة هو ذلك العاشق المجروح والراقص المحترف في العرضات والشاعر المفتون بأشعار العرضة والناشي والكبيس والكويتي وكل ميراث الأجداد العظماء الأحرار. إنه رمز الحب ذات نفسه صدقوه أيها المدنيون المترفون حين يقول :
(الوهم قذيفة رمادية اللون ترمي على القلب، أحمل قلبا مجوسيا في الطريق إلى الصحراء.) 
ويستطرد بسردية سلسة ورشاقة أخاذة كعطر يملأ أريجه عبق السرد برائحته المعطاءة الجميلة:
(الأفكار الملطخة بأخطاء صغيرة ناتجة عن الحقد تبيد كل شيء ...إنني أحتاج إلى أفكار حقودة، أفكار ملوثة بالضغينة... ويجب أن تمتع بصفة الجسارة حتى تخرج إلى الوجود وتنفذ... الصحراء مكان خصب لهذا النوع من الأفكار...)(34) 
ويعلل هذا لأن الصحراء ماهي إلا 
( صحراء فيها الريح ملك فحل مسيطر يضاجع كل شئ...) (35) (والطير في السماء ينظر والحيوان على الأرض يجفل ويركض، اللهاث كبير كبر الصحراء، سريع سرعة ريحها ...)(36)
وأخيرا نأتي للمفردة الأخيرة في ثالوث المحاكاة المحاكاة 2عند ريكور، الذي هو جل اهتمامنا في هذه القراءة ما يعني الحبكة أو الحبك كما أطلق عليها ريكور. في الحقيقة حبكة الرواية في ظاهرها السيميائي النوعي المميز عن حالة الحرب التي يعيشها جندي المشاة مع الكتبية العاشرة التي بها ثمانية أشخاص من نفس بلدته، يذهبون ليلبّوا نداء الوطن من أجل الدفاع والاستشهاد من أجل أرض وكرامة الوطن العزيز، وعند مدخل البلدة تعلق يافطة كبيرة كالتالي:
(مرحبا برجالنا الأبطال والجنة لشهدائنا الأبرار وادعوا الله لعودة المفقودين.. لم تكن اللوحة بحاجة إلى تفسير؛ فالرجال الأبطال سيف وفارس وكبيسي، والشهداء متعب وعيد، والمفقودين أنا وقناص)(37 )
وقد سموا الشوارع بأسمائهم في البلدة، فهم بالتحديد سبعة من تلك البلدة وهاشل من قرية مجاورة لهم ويعودون سواء أحياء أو ميتين منتصرين رافعين علم الحرية والشموخ نموذج قدوتهم من الأجداد العظماء الأحرار. وتقابلها حالة جندي المشاة (السارد الضمني) الذي يتعرض لخيانة من محبوبته وزوجته مع رجل آخر، ويطلق عليهم الراشي والمرتشي أو الموبوءة والشبح، فيطارد الشبح لشهور طويلة ويكون قتلهما والثأر لشرفه وعرضه هو هدف حياته مطلقا حتى لو مات في سبيل ذلك.
هذا هو الحبك الظاهري لرواية العاصفة الثانية، لكن الحبك الجمالي الذي صور وأوغر بالعديد من التأويلات الخطابية للمحاكاة 2 كحلقة وسيطة بين الزمن والسرد أي المحاكاة 3 و.1 هو رؤى جندي المشاة وتصوراته الإبداعية لكل المعاني المجردة رغم عنفوان الحرب التي هدأت أوزارها بالانتصار والعودة إلى الوطن سالمين رغم الشهداء والمفقودين، فهو يحارب ليس فقط من أجل وطنه وإنما ليحرر نفسه من شهوة الانتقام والقتل، وكأن الحرب أصبحت مفتاحاً سيميوياً هاماً لتنكأ جروح جندي المشاة، فالحرب قد طهرته من كل هذه الأحقاد والضغينة التي يواجه بها عالمه من كل كائن حي أو حتى غير حي وهو على الدوام لا يريد غير التعارك والدخول في أي معركة حتى يشفي غليله بأشد أنواع القتل الحاسم المتجسد في الرأس والقلب دون الأجزاء الأخرى من الجسد ودون اعطاء فرصة للآخر للأسر لتكون له فرصة للعيش والوجود مرة أخرى، فجندي المشاة سنَّ لنفسه المعذبة قانونه الذي طبقه على الجميع حتى على حيوانات الجبل الذي ربض فيه طويلا ليطارد الشبح، إنه يحارب ويحارب وفي نزاع حاد وطويل مع تلك الشهوة الانتقامية المستحوذة عليه كاملاً، وقد جلدته تلك الموبوءة بنظراتها الساحرة وسحقت قلبه وعقله وعرضه وبات كالمسحور سواء جذبًا أو نفورًا، وتلك الموبوءة تدعو عليه ألا يعود من الحرب سالماً وهي مع عشيقها تحت اللحاف من أجل أن تفوز به دونه، هكذا أخبره الشبح الملعون، كما أفقدته تلك الحرب الملعونة عيد ومتعب من أبناء بلدته، متعب هذا الشهيد العظيم الذي كان شاعرًا يكتب أشعاره على الرمل:

(يكتب عندما تطل الغزالة، يظل يكتب حتى تضع الغزالة ظله على قصيدته...)(39)
بقصائده المنظومة على الرمل الأصفر، أصيب متعب بسرطان الحلق والحرب الجوية مشتعلة، لكنه بعد علاجه بعض الشيء صمم أن يشارك في الحرب البرية حتى مات فجأة من قذيفة واحدة من مدفع الهاون (وأنتم أيها المدنيون المترفون هل تفعلون نصف ما فعل متعب؟) ويستطرد السارد الضمني ينفث غضبه على هؤلاء المدنيين بتهكم وسخرية بالغة من قسوة الفقد وعظم الفجيعة في أعز أصدقائه وأبناء بلدته:
(وأنتم أيها المدنيون المترفون: لم لا تدرسون كيف ولم أتى الإحساس بالنهاية عيدًا.) (40)
وهنا يشير ريكور:(مع المحاكاة 2 ينفتح ملكوت "كأن" وكان ينبغي أن أقول ملكوت القص، انسجاما مع الاستعمال السائد في النقد الأدبي.) (41) ويستكمل ريكور:( بوضع المحاكاة 2 بين مرحلتين سابقة ولاحقة من المحاكاة بشكل عام، لستُ أنوي تحديد موقعها وتأطيرها فقط، بل أريد أن أفهم على خير وجه وظيفتها التوسطية بين ما يسبق القص وما يلحقه. فالمحاكاة 2 موقع متوسط لأن لها وظيفة توسطية وتستمد هذه الوظيفة التوسطية وجودها من الطبيعة الحركية للعملية التصويرية التي أفضت بنا إلى تفضيل مصطلح الحبك على الحبكة، والتنظيم على النظام. وفي واقع الأمر، تشير جميع المفاهيم المتعلقة بهذا المستوى إلى عمليات، ومكمن الحركية في كون الحبكة تمارس، في داخل حقلها النصي، وظيفة تكاملية، وبهذا المعنى وظيفة توسطية، يتيح لها أن تؤدي فيما وراء هذا الحقل، وساطة ذات نطاق واسع من الفهم القبلي والفهم البعدي، إذا جاز لي قول ذلك لترتيب الفعل والسمات الذاتية.) (42) وبتتبع توضيحه :( ويشكل هذا المرور من التبادلي إلى التتابعي النقلة من المحاكاة 1 إلى المحاكاة 2 فهي عمل فعالية التصور. والحبكة توسطية بطريقة ثالثة، تتعلق بصفاتها الزمنية. إذ تسمح لنا هذه الصفات بأن تسمى الحبكة، وساطة التعميم، تأليفا بين المتغايرات(43)
إذا الحبك هنا لم يكن فقط تلك الحبكة الظاهرية للمحتوى الروائي التي ذكرناه في بدء القول عند الإشارة عن المحاكاة 2 ، بينما الحبك المسكوت عنه وغير الظاهر على السطح كان في الحركية المكونة للتصوير السردي التي أشار لها ريكور في المحاكاة 2 ، وتلك الحركية كانت إبداعًا فنيًا خالصًا في خدمة سير الحركة السردية بتوجيه مقصود من الروائي من بدايته إلى نهايته فشاعرية النص وحركية التصورات والتخيلات الأقرب إلى الشاعرية متتابعة ومتوالية من بداية النص الروائي إلى أخره دون خلل أو نقص في بعض أجزاء السرد بخلاف هذا يسير السرد متدفقا مستزيدًا تأججاً مع اشتعال الموقف لوضع نهاية حاسمة قاطعة له، بالوصول عند قرار انتحار الشبح وعمى جندي المشاة وعودته معافًى إلى الوطن فهذا الجندي المدرب على المشي دون كلل أو ملل أو تعب يتحد مع الطبيعة من جبال ووديان وسهول وهضاب وحيوانات مفترسة وبريئة، ويبتدع آلياته الخاصة والعامة من أجل التعايش معهم بكل الطرق والسبل، ليذلل ويهوّن كل صعب وعال وسام ومفترس، حتى أنك كقارئ في لحظات عدة تكاد أن تنسى "الحدوتة" الرئيسية وهي عن الحرب انزياحا لعالم جندي المشاة الداخلي في سرد هواجسه ومواجهة تحديات الطبيعة بكل ما تعطي وتعجّ من مفردات تستحضر الكتابة والقراءة في آن واحد.
وهذا يؤكد على ما أشار إليه ريكور وهو مدى قيمة وفاعلية المحاكاة 2 حيث تلعب دوراً مهماً للوساطة بين الزمن والسرد بفنية سردية بالغة الأثر، وإثراء القيمة الإبداعية داخل النص الروائي بوجه عام. يقول جندي المشاة بكل قوة وبصيرة نافذة:

 (الحيوان مُعلِّم بارع... بعض الحيوانات تفيد أكثر من الكهان، الصُّفرُ أظهروا للوجود ألعاباً للدفاع عن النفس من مراقبة الحيوان، أعترف إنني تعلمت واحدة منها...)(44)
وتتوالى استلهامات التخييل الآسرة مع الطبيعة والحيوانات بحكايته مع قائد قطيع الذئاب، وسيكون قائد هذا القطيع أول معلم له من الحيوانات المفترسة
 (...عواء الذئب يقوى... يحتد... بالتأكيد إنه قائد القطيع، إنه ينادي، قائد قطيع الذئاب أقواهم، أول من يبدأ في الهجوم، نداء الذئب بدأ يحتك بدمي، يمر على حواسي مجتمعة، يدوي في رأسي الساخن، إنه يدعوهم للاجتماع، التنظيم الهجوم، سیرتبهم بهذا الشكل، هو في المقدمة، بعده آخر ذئب هزمه، ربما كان القائد السابق للقطيع، والإناث سيجعلهن في المؤخرة، إنهم أذكياء جدا، يبدؤون الانقضاض بالمحاصرة، بتكوين حلقة، ثم يقفز القائد على الفريسة ... ويتبعونه ...) (45)
جندي المشاة هذا المحارب الشجاع ينتظر هذا الذئب قائد القطيع ليتعارك معه في معركة سيذكرها له تاريخه النضالي من أجل التحرر والتطهر وهو يناطح شهوته الثأرية المميتة القاتلة التي تملئه تجبرًا واستعلاءً وغرورًا بكبرياء مهزوم من وقع أخطاء البشر الغادرين، وهي شهوة جبارة ليس لها من حدود تعارك ذئبًا قائدًا، يا لها من مواجهة تستحق كل الحماس والتيقظ، لكن الذئب الذكي الحكيم الفطن لا يأتي مباشرة لكي يعلمه أن الحماس الزائد مذموم ويخاطبه بحصافة ذئبًا قويًا :( إياك والاستعجال يا جندي المشاة.) بينما جندي المشاة يعلل عدم حضوره بفذلكة المتأمل الحائر من أمره يبدو:
(..إنه ذئب شيوعي، فالشيوعيون لا يعينون شبابا يحكمونهم، إنهم يختارون الكهول والشيوخ والآن يبحثون عن الرؤساء الشعراء والفلاسفة والأدباء، لا بد أنه ذئب شيوعي.. اخرج أيها الذئب الشيوعي لا تهرب، إنني لابد أن أقتل حتى لا أموت...)(46) 
ويسترسل في حضور إبداعي في تصوير المشهد الأقرب إلى السينمائية وعندما يئس من حضوره نسي الذئب ونسي بناء الخندق ليحميه وشرع يجمع أعواداً يابسة ليوقد نارا وهو يجمع اليرابيع ويلقي بها، ليتعشى برؤوسها، وقد فرح بها لتكون نواة لإيقاد النار التي يتخيلها تشتعل في ذهنه.. وهو يحلم بصوت اليرابيع وهي تصرقع وتطقطق مشوية على نعشها الناري..)(47) فربما تلك النيران المشتعلة اللاهبة، وتلك اليرابيع المحترقة بلهيبها الأزرق ووميضها البراق يخمد تلك النيران التي تشتعل في ذهنه اليقظ المتأجج بنيران الغضب والكراهية والمقت من كل شيء وكل كائن حي حتى لو كانت هذه اليرابيع الحقيرة
(وفجأة قفز من فوق كثيب هلالي... تاكدت أنه دمي.. دم إنسان أحب لفترة طويلة)(48)
ويتحول هذا الذئب القائد لجثة هامدة بطعن سكين جندي المشاة إلى ثروة لا تضاهى لحامله إذا باع جلده فيصير ثريًا، فيقال أن جلده تخافه الجن ويزهو جندي المشاة بشجاعته رغم كبرياءه المدحور المدنس بجرم الخطيئة الفاحش بين الموبوءة والشبح الذي تظهر له صورته في النار بنفس هيئته الخلفية لظهره وعظمتي الكتفين الكبيرتين، تلك النار التي تختبر نشاط الذاكرة مهما مرت الأيام والشهور والسنون. لكنه يعاند ظهوره المباغت بالاحتفاء والزهو قائلا
(أنا قتلت ذئبا تخافه الجن فبالتالي أنا أقوى من جن كثيرين.) (49) وتتلاقى عيناه بعيون البوم (البوم حيوان يحب الخرائب. لابد أن خلفي خرابة جن لا أستطيع رؤيتها.) (50)
ويحاول أن يبني خندقاً بعيدا عن جحور الضبان والأرانب المنتشرة كمداخل أنفاق إلى العالم السفلي مما يجعل المكان غير صالح لبناء خندق. ويشتهي أكل أرنب بري معللاً ذلك أنها أكثر تمدنًا وتطورًا من اليرابيع (أكلة تستحق الذكر والتحدث عنها.) لكنه يتراجع ويعقد هدنة وحسن جوار مع الأرانب البريئة، ويسخر أنه أول مرة يعقد هدنة مع أحد من الحيوانات منذ عاشرهم، مع أنه في الحقيقة العسكرية التاريخية أغلب الهدنات تُخرق.
ويسير بنا التفاعل البصري والتصويري الفائق والقراءة المتخيلة تجعلنا لا نقرأ فقط وإنما نشاهد بحسٍّ طاغٍ من الصدق الفني والثراء الوصفي واللغوي ونحن نشاهد أكبر الجوارح (النسر) يمتع بصره الحاد برؤية السحب الزرقاء

 (ألم أقل لكم أيها المدنيون المترفون إن الإنسان يستفيد من مراقبة الحيوانات) (51)
 ربما أشفق جندي المشاة على جيفة هذا الذئب الجسور الذي قتله وتحوله لجيفة لا قيمة لها غير كونها شهية لذيذة لإطعام نسر جائع، فالجندي مهما بلغت قسوته وبرودة أعصابه يشفق أيها المدنيون المترفون على الضحية التي يقتلها حتى لوكان حيوانا مفترساً، لكنه اطلاقًا لم يحمل أي شفقة على الموبوءة لأنه لا قيمة لها والشبح الذي له منتصف القيمة وبقاء هذا المنتصف فقط من أجل أن يمزعه مزعًا حتى القتل بين يديه:
 (وأنتم أيها المدنيون المترفون تجلسون داخل غرفكم المعطرة تحبون وتذلون ونحن في المعسكر ندافع عن ذلكم وحبكم.) (52) فجندي المشاة يعترف أنه (في الصحراء تعرفت على أنواع كثيرة من الحشرات والنباتات والحيوانات، عرفت الأرطى، الأراك، وابن آوى، الببر، بخور مریم، والمرو، البرغوث، الباشق، البهار، البيزان، الحبارى، والحجل، عرفت طيور الليل وطيور النهار، حيوانات الليل وحيوانات النهار، فكرت في كل ذلك ونمت ....) (53)
الألم ذلك الجنين المدفون في أحشائنا دون مخاض وولادة، إنه أشبه بالزرع الشيطاني مثل أفعال البشر الشيطانية، لا ينام ولا يغفو (كائن قوي سهار) حلم بهما جندي المشاة الشقي متعانقين في حبور وود واللذة المحرمة تلفح الرغبات المرعبة، فقابله الشبح في العرضة، تلك الاحتفالات الأصيلة الشائعة في البلدة والقرى المجاورة، لكن جندي المشاة كان ملثّماً وعيب أن يقتله وهو ملثم وفي حضور قارع الطبل المبجل نجم ومنظم العرضة عمر الذي كان من أشد محاربي البلدة القدماء في حروب الأجداد ضد الجيران ومشاركة الملك في توحيد الجزيرة العربية، هذا الرجل الفحل الهمام الطويل العريض ذو الوجه المربع ينضح حمرة بعينين مكحلتين، ينظم العرضة بحضور كبار الشعراء وحاملي الطِيران مع قارع الطبل المحترف نجم ويطلق على من لم يحضر العرضة الحمار الكبير. وأنتم:
 (أيها المدنيون المترفون ألا تعرفون.. ألا تدركون أن الرجل إذا حاك اللثام حول وجهه عِيب في بلدتي؟)(54)
ويسترسل جندي المشاة استلهماته الخطابية الموجهة لهؤلاء المدنيين المترفين الذين يغسلون وجوههم ولحاهم المنمقة بصابون من دهن الخنازير والحيوانات الخسيسة. ألا تعرفون أن جندي المشاة لم يكن مسموح له بالتدخين سوى بسيجارة في النهار (وفي الليل لا تبغ ولا عطاس ولا سعال لأن السيجارة تجعل الشبح يرى والعطاس والسعال يجعلانه يهرب ويحذر..) وأنتم أيها المدنيون المترفون ألا تشعرون كيف لهذا الجندي الحر أن يمنع نفسه بالقوة عن خروج السعلات أن يضطر ألا يدخن في الظلام حتى لو احتجز سعاله وعطسته بين كفي يديه بصوت مكتوم حتى لا يسمعه أو يلتقطه هذا الشبح الملعون، هل جربتم هذا من قبل أيها المدنيون المترفون أن تضطروا لمنع العطسات والسعلات؟! ألا تعرفون أيضا أنه تعرّى في بلدته بينما هو في المعسكر بلباس الجندية الخشن الغليظ. هل توجد قسوة أكثر من ذلك؟! أن يتعرى الجندي في عيون رفقائه المحاربين ورؤسائه بينما هو يدافع عنهم جميعا وعمّن يحاول أن يعري ويغتصب أرض وطنه؟ يا إلهي يا له من عذاب شديد الوطأة على النفس كيف له أن يتحمل؟! بل إنه عذاب فوق احتمال أشجع الرجال. لكنه يعترف في نهاية الأمر بيأس شديد:
 (إنه عذاب ابتكرته رغم الانتقام وفرضته ذمتي المخلوعة...)(55)
هذا الحبك في المحاكاة 2 تلك الوساطة النوعية المميزة لطابع هذه الرواية والتي جعلت من مذاق السرد أخاذًا ومتفردًا عن قصص الحرب المعهودة في اختبارات الذاكرة المؤلمة والملمة بها تتحول في العاصفة الثانية إلى حرب وجودية للتطهر وليس فقط من أجل الأعداء المقاتلين إنما من المعاني المجردة والرموز الكبيرة والشاهقة المنال عن الحب والخيانة والثأر والانتقام وسر الوجود نفسه تلك المرأة الفاتنة بإغوائها الشيطاني، إنه تحرر مغاير وطاغ لهذا الإنسان الموسوم بالخطيئة منذ بدء الخليقة عندما أغوته تفاحة حواء لتخرجه من الجنة والنعيم انصياعا للشهوة والرغبة المحرمة، إنها حرب لعودة الضمير الإنساني أرقى مخلوقات الله على أرضه الذي به رفعه وأعلاه دون البقية عن كل الكائنات الأخرى، وبين ملكوت خالق هذا الكون الفسيح من الصحراء الواسعة والسماء العالية في امتداد سرمدي لا نهائي، وبرحمة الرحمن الرحيم يتحرر ويتطهر جندي المشاة، ويعود إلى بكارته كبكارة وعفة هذه الطبيعة البكر العذراء من أي دنس بشري، الصائمة عن الرذيلة والخطيئة الإنسانية.
حتى تأتي ذروة الحبك في المحاكاة 2 وقد جاءته الإشارة عندما لاحقه هذا الغراب الأسود القاتم بهيئته المخيفة بذرقه على رقبته وظهره، فتخيله الشبح، لذا عليه أن يقتل هذا الغراب المنحوس أولا حتي يقتل شبيهه هذا الشبح الخائن، وتكتمل إشارات الخلاص والانتهاء والتحرر عندما يأتيه الخفاش الأول ثم يأتي الثاني ليتذكر الموبوءة وقد أدرك أنه كان مثل هذا الخفاش الثاني تابعا مسحورًا بدلالها وفتنتها، فتيقن بحدس الجندي الحذق البديهة أن المعركة الحاسمة قادمة وقد قرر الشبح الانتحار بقطع شريان في معصمه حتى يتخلص من ثأر جندي المشاة الذي سيظل يطارده حتى الموت مهما هرب واختفى وتحذر وهو يتحدى أن يقتله بنفسه وكان تحديًا جبانًا، تحدي أنذال الحقراء (56)
وينهار جندي المشاة ولكن لا ييأس في تحقيق رغبته المميتة في قتله بنفسه رغم نقاط دمه الحمراء المتخثرة والمتناثرة في ثنايا الجبل التي (تلبس عباءات سوداء.) فتشعل هياجه العصبي أنه سيموت باختياره منتحرًا دون مشيئة جندي المشاة وربما يتمنى أن يفعل به مثلما فعل مع جثة العدو عندما كتب اسمه بالرصاص على صدره، ويسترسل في تصوير مشهد عاصف وبديع التخيل بوصفه المجازي والدقيق الطرح:

 (انفتحت في رأسي فكرة جرّ الشبح أو ايقافه برمي المقلاع عليه... رفعت المقلاع ودورته في الهواء، كنت ممسكا بالجبل والمقلاع يدور في الظلام، عند سفر المقلاع في الظلام دار رأسي وزلقت في جرف هار... ارتخى الجبل وأنا أتقلب على الصخر.. نيران اشتعلت في ظهري وساعدي وأنا أنجرف، وضعت يدي على فودي أتحاشى ارتطام الصخر برأسي... غبت عن الوعي...)(57 ) ويتمم سرده الغائر بقوله: (غالبية النهايات الشريرة سوداء.)(58)
ويصبح جندي المشاة أعمى معفى من الخدمة العسكرية ويذهب للعلاج في إسبانيا.
(أعمى يوقع على تسليم العهدة ويرد دموعه حتى لا تطل على توقيعه المضطرب...)(59) 
( كنت أتحسر وأقترب من البكاء... أتحسر لأنني وصلت إلى درجة شابه فيها توقيعي توقيع الشبح... لم أنس في الجو لثانية واحدة أنني جندي معفى... جندي أعمى...)(60)
وأخيرًا يعود بعد أربعين يوما للعلاج في إسبانيا إلى حضن الوطن إلى الجبل بلونه البني الداكن سالمًا معافًى مبصرًا وحرًا من الحرب والانتقام والعمى، ويستقبله الشاعر الكبير الناشي بشكل خاص بالعرضة والاحتفال والفخر وكل الحب والامتنان ورد الكرامة والعزة، ويبدأ الناشي البصير والحصيف يدق مسامير على أضلاع جندي المشاة بشعره الفتان، وهو يطلب منه أن يتعفف وألا يدخل حرباً جديدة، فالحرب الثانية لا تليق برجل حر  وكريم الجدود يحمل جينات وإرث أجداده العظماء، وبسلاح الشعر العربي الأصيل ينحت الناشي الكبير إرادة جندي المشاة عن أي انتقام من أي آخر أو أخرى، وكيف لا يستطيع الناشي هذا؟!
(والشعر سلاح مغير فقد غلب شاعران ولياً ورجالا صالحين...)(61 )
 وتنتحر رغبة الانتقام داخله كما انتحر الشبح الملعون وتعففت نفسه عن تلك القاذورات القديمة، وهو يتأمل كل ما فات وراح وانقضى قائلا:
( .. وحين فكرت بالانتقام تذكرت الصحراء وتذكرت الجبل وانبعثت في ذهني أشياء قذرة، تذكرت الضربان وهو يفسو في جحر الضب ويخدره، ثم يأكله [...] والموبوءة ضربان لا يستحق القتل هكذا قررت، ولكنها لم تخدرني، الناشي هو الذي خدرني فقتل المرأة عار بهذا المعنى لمح في انشاده لما كنا في المطار، وتذكرت الحبارة بريش ذيلها الزاهي، كم هي الحبارة مغرورة بريشها وأناقتها[...]والموبوءة حبارة ثانية بهذا المعنى صرح الشاعر الناشي في المطار....) (62)
       هكذا نجد تمثل وتميز هذا الحبك البارع (المحاكاة 2) في ثالوث المحاكاة كحلقة الوساطة بين (المحاكاة 1)   _الزمن_ و(المحاكاة3 ) _السرد_. هذا الحبك الأقرب للغرائبية بوقعها السحري وهي تبث في الأعماق حبكًا هارمونيًا يمتزج بسيميائية نوعية مثيرة شديدة التميز بين واقع حرب وواقع سحري من خلق الطبيعة الإلهية، لتبدع بها يد فنان أغرق نفسه في تأمل سحرها الواقعي الغرائبي الذي يفوق الواقع المعيش لهؤلاء البشر الضعفاء، المذلين، المهانين، الخاضعين لعبودية الحاجة والرغبة والشهوة والجشع والفتات الرخيص. هؤلاء البشر الذين لن ولم يتجاوزوا سوى عن الركض وراء حبارة غبية مثلما فعل هذا الشاهين الذي كنت أظنه سامقا شامخا بصولجانه الملكي، ثم احتقرته عندما أساء لكبريائه وشموخه وعظمته، وهو يحارب حبارة غبية مغرورة بريش ذيلها الزاهي الزائف.     


_____________________  
(1)    انظر المصدر : الجزء الأول / بول ريكور / الزمان والسرد_ الحبكة والسرد التاريخي _ ترجمة : سعيد الغانمي وفلاح رحيم _ راجعه عن الفرنسية الدكتور : جورج زيناتي _ دار الكتاب الجديد المتحدة 2006.) _(إفرنجي ـ علي مولا).
(2)    انظر المرجع السايق: الفصل الثالث _ الزمان والسرد : ثالوث المحاكاةـ ص 95.
(3)    العاصفة الثانية: ص4
(4)    العاصفة الثانية : ص5
(5)    العاصفة الثانية : ص6
(6)    انظر المرجع السابق: القسم الأول دائرة السرد والزمنية من ص23_ ص.151./3ـ الزمان والسرد : ثالوث المحاكاة من ص95_ ص151
(7)    المرجع السابق: ص96
(8)    المرجع السابق: ص 96
(9)    المرجع السابق: ص 96
(10)    العاصفة الثانية : ص13
(11)    العاصفة الثانية : ص13
(12)    العاصفة الثانية : ص15
(13)    العاصفة الثانية : ص18
(14)    العاصفة الثانية : ص9- 10
(15)    المرجع السابق: ص97
(16)    المرجع السابق: ص98
(17)    المرجع السابق: ص106
(18)    العاصفة الثانية : ص11
(19)    العاصفة الثانية : ص12
(20)    العاصفة الثانية : ص12
(21)    المرجع السابق: ص106
(22)    المرجع السابق: ص107/ مخلقات ـ inductors: عوامل مساعدة في تخليق الجنين.
(23)    المرجع السابق: ص129
(24)    المرجع السابق: ص122
(25)    المرجع السابق: ص123
(26)    المرجع السابق: ص122
(27)    العاصفة الثانية: ص10
(28)    العاصفة الثانية: ص11
(29)    العاصفة الثانية: ص22
(30)    العاصفة الثانية: ص23
(31)    العاصفة الثانية: 54-55
(32)    العاصفة الثانية: ص28
(33)    العاصفة الثانية: ص28
(34)    العاصفة الثانية: ص15
(35)    العاصفة الثانية: ص16
(36)    العاصفة الثانية: ص16
(37)    العاصفة الثانية: ص32
(38)    العاصفة الثانية: ص40
(39)    العاصفة الثانية: ص40
(40)    العاصفة الثانية: ص40
(41)    المرجع السابق: ص113
(42)    المرجع السابق: ص 114
(43)    المرجع السابق: ص115ـ 116 / هوامش الكتاب: الفصل الثالث: ص375: ثمنا لهذا التعميم سيتمكن مؤرخ من طراز بول فين من تعريف الحبكة بأنها تركيبة ذات خواص متنوعة من الأهداف والعلل والمصادفات، فيجعل منها دليلا لكتابته التاريخية في كتابة (شرح على كتابة التاريخ). وعلى نحو تكميلي، وإن لم يكن مناقضا له، يرى فون رايت في الاستدلال التاريخي تركيبة من قياسات عملية وسلاسل سببية تحكمها القيود النسقية. وعلى أنحاء مختلفة تضم الحبكة سلاسل متغايرة.
(44)    العاصفة الثانية: ص17
(45)    العاصفة الثانية: ص18
(46)    العاصفة الثانية: ص20
(47)    العاصفة الثانية: ص20
(48)    العاصفة الثانية: ص21
(49)    العاصفة الثانية: ص23
(50)    العاصفة الثانية: ص25
(51)    العاصفة الثانية: ص28
(52)    العاصفة الثانية: ص36
(53)    العاصفة الثانية: ص37
(54)    العاصفة الثانية: ص48- 49
(55)    العاصفة الثانية: ص57- 58
(56)    العاصفة الثانية: ص60
(57)    العاصفة الثانية: ص62
(58)    العاصفة الثانية: ص63
(59)    العاصفة الثانية: ص64
(60)    العاصفة الثانية: ص64
(61)    العاصفة الثانية: ص73
(62)    العاصفة الثانية: ص74-75

TAG

ليست هناك تعليقات

إرسال تعليق

I am happy to read your opinion or suggestions

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *