-->

الذاكرة الكابوسية- قراءة في رواية الغصن اليتيم لناصر الجاسم بقلم: د. حسين المناصرة

الذاكرة الكابوسية 
قراءة في رواية الغصن اليتيم لناصر الجاسم



بقلم: د. حسين المناصرة

«كانت غرفة التحقيق كالجرف الذي أود عبوره إلى يد السياف، فهل أصل أم أتعثر في وحل المحقق؟ «..» نطق المحقق بعد لأي بصوت متقطع: «حسب خبرتي فلا شيء عليك، وتقرير الطبيب الشرعي يشفع لك».«الرواية، ص 58»
كان من المفروض ان اضع ترويسة هذه القراءة بعنوان «الذاكرة السازوخية»، بمعنى الذاكرة المستمدة من «منحوت» لفظتي «السادية - المازوخية» «جلد الآخر - جلد الذات»، على أساس ان هذه العلاقة المتضادة هي الذاكرة التي تتشكل من خلالها بنية رواية «الغصن اليتيم» لناصر الجاسم، حيث نجد بطل روايته المثقف يعيش تفاصيل تناقضات هذه الثنائية النفسية العجيبة التي تولدت لديه من خلال علاقته بالفتاة التي أحبها ثم تزوجها فقتلها بطريقته العاشقة الفاجعة غير المتعمدة في سياق الحب العنيف السادي ان صح هذا التعبير، ليتحول بعد ذلك موت الزوجة الى كابوس يحاصر الزوج المعذب ويقض مضجعه، فيسعى هذا الزوج العاشق من خلال عقدة الذنب الى التعلق بأية طريقة قانونية تدينه، وتحمله مسؤولية قتلها، سعيا منه الى شهوة ان يحكم عليه بالموت، تكفيرا عما فعل، لكنه في نهاية المطاف لا يصل الى مشتهاه المازوخي، فتصير حياته حالة عجائبية، تمتلىء بكوابيس المرض والجنون من خلال ثلاثية «الاثم، والهم، والوهم»..
من هذه الحالة الكابوسية او الذاكرة «السازوخية»، تبدأ الرواية وتنتهي أيضا، بل ان بدايتها تشكل نهايتها، ونهايتها تعود الى بدايتها، فتغدو رواية مدورة في تداعيات لغتها الأقرب الى شعرية المأساة السوداء.
وعلى أية حال فان قارىء هذه الرواية لابد ان ينزعج في بداية قراءته لها، وتحديدا من تداعيات الكوابيس في الصفحات العشر الأولى، ثم سيجد نفسه في الصفحة العاشرة أمام مدخل الرواية الحقيقي الذي يكشف عن مفتاح القراءة الامتاعية التشويقية على الطريقة البوليسية، وذلك عندما يرحب المحقق ببطل الرواية «الكابوسي» بقوله له: «أهلا بالزوج القاتل»، فمن خلال هذه الجملة تنكشف شخصية البطل، الذي لا يعبأ ب«أهلا»، ويتحفظ تجاه «الزوج» ويحفل كثيرا ب«القاتل»، إذ تبدو مشكلته انه مقتنع الى درجة كبيرة بأنه قاتل زوجته، لكن الآخرين، كالمحقق، والطبيب، واخيه احمد، هم الذين لم يقتنعوا بعد بأنه القاتل الذي يستحق الموت. فهم عموما يحيلون حالته الى الجنون من جهة، وإلى المرض الجسدي والنفسي من جهة اخرى، بحيث يصبح في النهاية حرا طليقا لا تطاله يد العدالة، وليس مطلوبا في أية جريمة قتل تحاصره.
ومع ذلك فإنه رغم براءته لم يبرىء نفسه، لذلك يبقى غير قادر على أن يشفى من أوهامه وتخيلاته الكابوسية التي تجعله يتصور نفسه اشرس مخلوقات الله على وجه الأرض، لأنه تصرف بعنف في ليلة زفافهما، فقتل الجمال أو «الغصن اليتيم» في جماله.
رآها أجمل مخلوقات الله على وجه الأرض في مقابل تصوره لنفسه أقبح مخلوقات الله، فكأنه في عقدة ذنبه هذه غدا شبيها للشاعر ديك الجن الحمصي الذي تعذب كثيرا بسبب قتله لزوجته!!.
ربما يستغرب قارىء رواية «الغصن اليتيم» من قدرة مؤلفها العصابي «على إلحاق الأذى» ببطل الرواية بحيث لم يترك له منفذا لكي يتنفس خارج عقدة الذنب التي تجلده جلدا لا هوادة فيه، خاصة ان ذاكرة البطل المثقف بدت قوية في تفاعلها مع المأساوي في دراما حياته، وهنا يتمنى لو كانت له ذاكرة عادية رخوة، تبحث له عن عذر يخفف به من عقدة ذنبه المازوخية التي تولدت مما سماه شهوته العمياء التي بدت نتائجها المدمرة في قوله: 
«هذه ثمرة الشهرة العمياء، اما موت أو جنون، أو أبناء غير شرعيين، او زوج في السجون، فليت لي ذاكرة رخوة تستقر في عقلي المعطوب، فالذاكرة القوية فيه مأساة لا تنتهي «ص 57».
وهذا الاستغراب المشار اليه في سياق فن القراءة لا يعني الانتقاص من جماليات الرواية أو الاعلاء من شأنها، إنما يعني تشكل الرواية من خلال المنظور السوداوي الكابوسي القاتم في تصور القارىء والمبالغة في الفن من الناحية النقدية على وجه العموم تعد جزءا من تشكيل الفن الحقيقي، بشرط ان تكون هذه المبالغة مبررة، علما بأن نتائج الفعل السادي في الرؤى والمضامين لا تتطلب ان تكون مبررة منطقيا، إذ لا نستغرب ان يتولد الموت من سادية الشهوة الذاتية، بحيث تصبح حالة الاستغراق في الفعل السادي غير الواعي، حالة من حالات بناء الكارثة الناتجة عن العفوية والمصادقة، وهذا ما حدث مع البطل الذي صوره المؤلف على انه يمتلك صفات العنف في لغته بوصفه مبدعا، وفي تصرفاته بوصفه عاشقا، بغض النظر عن كونه السبب المباشر في موت زوجته، بل ربما تكون وفاتها لسبب آخر لا دخل له فيه كما توصل الى ذلك الطب الشرعي.. إلا أنه بطل تراجيدي شغوف بتعذيب ذاته التي رآها: 
«كوطواط لا يرى، صادف شيئا جميلا فأكله مبتدئا بقلبه ثم عزقه وسلمه للتراب» ص«56».. أو «دودة عمياء يجب ان أؤكل بدود شره حاد البصر» «ص 57». أو وشم أسود في عرف قبيلة الجمال يجب ان يمحى، وفايروس يجب ان يدمر على حد قوله. ص«3».
وبالتالي تمتلىء الرواية بهذا السياق من تعذيب الذات الذي يصاحبه سخرية مرة أيضا من الآخرين، بحيث تبدو الحياة في سياق العلاقة بين الذات والآخر عديمة الجدوى بعد ان غاب عنها جمالها الحقيقي الذي تشكل في الغصن اليتيم / الزوجة، وتاركا في الوقت نفسه الغصن اليتيم/ الزوج وحده يعاني عذابات لا حدود لها حتى بعد إثبات براءته.
هكذا تتشكل حكاية الرواية كما يبدو من خلال نموذج فكرة القصة القصيرة جدا، أي انها قصة حب عادية، تبدأ من نقد البطل المثقف لقصائد البطلة المثقفة في احدى الصفحات الثقافية في جريدة محلية، ثم يتحول العراك الثقافي الى حب، لا يلبث ان يواجه بعض العوائق الاجتماعية وهو يتحول الى زواج، خاصة في ظروف العادات الاجتماعية القبلية والاقتصادية، ثم يتم الزواج رغم المحاذير والقيود. وفي توهج الفرح الموتور ليلة الزفاف يتحول الزواج الى مأساة.
لكن هذه الحكاية المحدودة تغدو بسبب عقدة الذنب التي سكنت في نفس البطل رواية قصيرة نسبيا، تتعمق فيها مأساة معاقبة البطل لنفسه، سعيا منه الى تدمير الذات من اجل الانتقام لمن تصور انه احبها وتزوجها فقتلها، فتصير اللغة فاعلة في التعبير عن نفسية مع يعذب نفسه على طريقة الانتحار البطىء، بل انه يتصارخ بالآخرين معاتبا لأنهم لم ينقذوا زوجته من بين يدي ساديته، وانهم لم يقتلوه جزاء مما اقترفه من ذنب لا يتراوح عن كاهله.
يقول : «لماذا لم يأت من ينقذها من ساديتي؟ لماذا لم يهب اليها من يخلصها مني حين اسكرها عشقي؟ أيتها الغريزة المجنونة، لماذا سكنت جسدي في تلك اللحظة؟ مغضوب على مطرود من جنة الدنيا وجنان الآخرة! أحس ان الملائكة تبصق في وجهي، وتصفعني منذ البكور حتى الغسق.. «ص1».
ويقول أيضا: 
«ليت واحدا منهم لديه حمية وغيرة على الجمال، ليثأر لها ويشنقني في ساحة المدينة بعدما يلقي خطايا يكيل فيه التهم لي ويقدم الحجج على وحشيتي وماسوشيتي، ويصفق له النظارة باسمين» «ص3».
ان ثلاثة أرباع لغة الرواية تدور في هذا الفلك من تعذيب الذات، وهذا ما يجعل الرواية تتحول من سياق القصة القصيرة الى سياق الرواية القصيرة، لأنها كما يبدو محدودة في بناء الشخصيات، والأحداث، والزمكانية.. الامر الذي يؤهلها لأن تكون رواية قصيرة جدا على طريقة «موضة» الكتابة القصيرة. وهذا السياق القصير جدا هو احد أهداف الكتابة الجديدة على وجه العموم في الأجناس الأدبية كلها في وقتنا الحالي!!.
ما يهمنا في ضوء ما سبق ان كتابة ناصر الجاسم ذات ذاكرة عصابية كابوسية تنبع من ذاكرة سوداء قاتمة تتلاعب بمصير أبطاله الذين في الغالب يواجهون الموت في تراجيديا مأساوية، مثل موت البطلة، أو موت يوسف ابن عمها الذي سعى الى الزواج منها على طريقة «ابن العم ينزل بنت عمه عن الجمل».. أو مرض البطل وجنونه من خلال امتلائه بالعقد النفسية التي اثرت كثيرا على صحته الى حد ان اصبح مثل من «يخرج من القبر بكفالة» على طريقة السخرية الشعبية، او السخرية من الآخرين كالسخرية من المحقق وأحمد، وأم الزوجة.. الخ.
وقد بدت الرواية تحمل ملمحين واضحين هما: ان المرأة تشكل مصدر الحياة والجمال، وغيابها يمثل غياب الحياة والجمال معا. وان الرجل يشكل مصدر العذاب والشقاء، وحضوره يعني ان يبقى حالة من العذاب المتواصل، بسبب جنايته على المرأة، حيث تنتهي الرواية باشتعال المأساة في حياة البطل الذي يتصور نفسه يقف على تل الذهول يصارع الأحزان والهموم التي شرع لها نوافذه فاستقبلها كريح عاتية، لا تفارقه.

TAG

ليست هناك تعليقات

إرسال تعليق

I am happy to read your opinion or suggestions

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *