-->

رأي الناقد العراقي: عبد الباسط العباسي في نصوص ناصر الجاسم

رأي الناقد العراقي
 عبد الباسط العباسي
 في نصوص القاص والروائي 
ناصر الجاسم


أمام اثني عشر نصاً متفاوتة في سحنتها و زيها وجمالها، يقف القارئ طويلاً يتلصص من فرجة شباك على هذه الأجساد المنحوتة والمطلي بعضها بالكاكاو والتي تفوح منها شهواتها السبعة، يتساءل: هل الأدب ممارسة متناقضة في المجتمعات المنغلقة من منظور صراع الأخلاقيات؟ هذا ما نلمسه خاصة في النظم الدينية، يتم اتهام الأدب في هذا النوع بصفة عامة بأنه نشاط ترفي ترفيهي غير نافع في كثير من أجزائه، أو أنه نشاط غير منتج من مفهوم رأسمالي ولا يعدو أن يكون نشاطاً للتسلية فقط..!
لكنه في الحقيقة رغم أنه نشاط يمارس في مجتمع رأسمالي ديني، نجده يكشف عورة هذا النظام ويعدّ مهماً في السيرورة الحضارية ويشرعن لها.. 
هذا ما نجده في أعمال أ. ناصر الجاسم، فهو يرى أنه بات من الضروري مواجهة الهيمنة الأحادية وكذلك مواجهة ذواتنا وكشف سوءاتنا لا لغرض إشاعة الفاحشة بل لإيجاد حلول واقعية واكتشاف أدوية تقع موقعها من المرض دون أن يستهلكنا التسويف وتتقشر دواخلنا بفعل الكبت..


" للتكاسل في مراجعة الأطباء عيب نفسي نشأ عندي منذ البلوغ واستمر معي إلى الآن.."

تدعونا هذه النصوص التي تبدو في ظاهرها نصوصا إيروتيكية أن نواجه سؤالاً مصيرياً يشبه سؤال (توينبي) ما هو نصيب مجتمعاتنا المنخورة من البقاء في القرن العشرين والحادي والعشرين؟ بعض الأجوبة قد تكون متشائمة جداً فتقول: ضئيل جداً! 
تقول لنا هذه النصوص إن لدينا انخفاضاً في التوتر الروحي ويعتبر واحداً من السرطانات التي لم تفلح بعض الأيدولوجيات الدينية وحتى غيرها في علاجه والذي بات ينتشر بشكل واسع في الجيل الحاضر.
يبدو أن سر الشقاء يكمن في أمور عدة وتعدّ المشكلة الجنسية هي إحدى الهواجس التي تؤرق مجتمعاتنا ونقف عاجزين لإيجاد حل معقول لها، خاصة ونحن مجتمعات تمتلك فراغاً كافياً يمَكِّنها من وضع- ليس تساؤلات وجودية فقط- ولكن في توغل جحيم الشهوات السبعة في أعماقنا، لدرجة أن نهدَ امرأةٍ عجوز بشكل مقزز يمكن أن يثير غرائزنا ولو كان نهد أم أو عطر أخت.. 


" أنا أمك سالمة، أنا أم الجميع..." عيب عليك يا شاهر، أنا نوف أختك من الرضاعة...

لكن هذه الرضاعة وآلتها هي ما يشقي أفراد المجتمع الذي لا يجد حدًا فاصلاً بين شهواته وفطرته.. 


ناصر الجاسم يكسر النمطية باعتبارها منظومة وطريقة معينة في السرد السعودي ليس على مستوى الالتزام بل على مستوى الجمالية، فيرتقي بالسرد السعودي نحو مصافّ العالمية في بعض نصوصه، لدرجة أنك تقف لحظات مندهشاً تسترجع ما قرأت من نصوص غربية علّك تكتشف أن ما يكتبه ترجمة استطاع ببراعته التصرف بها..!
من وجهة نظرٍ سقراطية يمكن لنا أن نقول: إن (الجاسم) يعتبر أن الفن السردي كأي فن آخر هو محاكاة لجوهر الطبيعة من الجانب الواقعي وليس من الجانب المثالي ..
طبعًا هذا على الجانب السعودي هو كسرٌ للنمطية وقفزٌ عالٍ فوقها، لكن قد يكون على المستوى العالمي هو ضمن منظومة الأعراف المألوفة لدى المتلقي، لكنه هنا نمط يشعّ بالمعنى والهدفية بلا شك.
هكذا كل تغيير يبدأ من حكاية، من فكرة عامة ثم تنمو وتكبر لتصبح صورة من صور الحياة.. 
أنثى الكاكاو، نحات التذكارات، الشهوة السابعة، النور الأسود، بوح، هذه النصوص تتمتع بسلطة على بقية النصوص من مناحٍ كثيرة ابتداء من التقنية واللغة بل هي نصوص أشبه ما تكون بعملية البعث عن طريق التحليل الذاتي، وتقول لنا بوجه آخر أن المجتمعات تتدهور حين تفقد السيطرة على تعقيدها، وهي تفقد السيطرة في اللحظة التي تبدأ التفكير في حدود الأصناف المادية... 
نجد ذلك جلياً في مشاهد النور الأسود ولقطات قايض شتيوي.. 
هو نموذج لعقولنا الباطنية التي تدور في فلك الفلوس والتخييل.. في مدار الشهوات والريالات.. 
إن الإنسان الشرقي فاوستي من نوع آخر، ميالٌ إلى التأكيد على طاقاته الجنسية ويحفر عميقاً في خيال مَرَضي لاستجلابها وشيء طبيعي أن يكون هذا الخيال المريض هو السر الكبير في تدهور مجتمعاتنا..


" كومة النقود الورقية على السجاد متضخمة أشبه ما تكون بأهرامات ورقية صفت جنباً إلى جنب بشكل عشوائي، وبدت عند قايض شتيوي الكومة اللذيذة المنعشة... الكومة المعطرة التي تجعله يمارس لعبة التخييل مع زائرات المحل..!"

مجتمع فاشل اقتصاديا لا يستطيع أن يوظف هذه الأكوام لبناء أهرامات حضارية، ولكنه يستطيع مدّ خياله من خلال تهرمها لتكون أرداف امرأة ما وتوظيفها للتخييل الجنسي..
إن النظام الاجتماعي السليم هو الذي ينظر بعين الاعتبار إلى ما يكسبه وتوسيع خياله من أجل بناء حضارة لا تشعر بالضياع بين فردتي نهد وردف.. 
قايض شتيوي مثال للفرد الذي يصفه إليوت.. 
المولد والاتصال الجنسي والموت 
هذه هي كل الحقائق.. 
قايض شتيوي فرد في أمة.. !
وهذا مستوى بدائي من العيش، بينما يجب على المجتمع أن يعيش في المستوى الأعلى دائماً، وهو مستوى الخيال والعقل.
نصوص (الجاسم) يمكن أن أطلق عليها "النصوص الكاسية العارية"، فهي- بالرغم من جرأتها- ففي وجهها الآخر رمزية عميقة يبالغ فيها في بعض النصوص حتى يفقد نكهته كنص سردي وبالكاد تجد أثراً للحكاية.. 
لكنها بشكل عام تشكل فارقاً وإعلاناً إبداعياً صريحاً وإصرارًا على ارتياد الثيمة المغايرة المتحللة من نمطية القصة القصيرة السعودية الموغلة بالرمزية، متلبسة بشغب ونزق واكتشاف عن الزوايا المغلقة في الثقافة الجنسية والسفر بخبرة (محروم) في سهوب التأريخ المجهول لجسد المرأة.. 
نجد هذا جليا في (طير العرفج) و(الشهوة السابعة) فطير العرفج والعرافة يندمجان بشخص واحد مكوناً منهم جنساً ثالثاً متواطئا مع الذكورة والأنوثة ومع الكاتب ذاته في نفس الوقت؛ فالعرافة وكتابها تكاد في توصيفاتها الإيروتيكية أن تفضح موقعها الذكوري أو الكاتب (طير العرفج).
في الحقيقة لا أدري لِمَ اختار الكاتب العرفج تحديداً، ألأنه نبات صحراوي يزهر في ثلاثة شهور ثم يذوي؟ أم لأنه تحول لنبة نادرة توشك على الانقراض؟ أم لأنه نبتة يستخرج منها ما يستطب به لعلل الجسد؟ 
ربما الأخيرة هي التي أرجحها.
بشكل عام هذه النصوص منفلتة من حدود المراوغة والكذب إلى فضاء الواقع والحقيقة لتجابه الواقع الاجتماعي واللغة والإبداع الأدبي وليس النصوص الأخرى للكتابة.
لا شك أنه يعالج حالة أممية لأنها منتظمة في حركة عامة في محاولة لتغيير أقدار المعذبين، ولأن هذه هي إحدى مهام الكاتب نعود إلى (هاملت) حين يقول مارشيلوس لهوراشيو وقت ظهور الطيف:
أنت مثقف كلمة.. 
وأنا اقول أنت كاتب يحمل تقنيته الخاصة والمميزة تنظر من باب القصة وليس من ثقب الجدار تكشف أعماق الذكر حين يشغله جسد الأنثى وطوبغرافيته بكل ما يحمل من براءة وشيطنة..


" الله الله في بنت الأجاويد لا تقصر عنها الليلة، زود لها الدهن "!

وهل عشبة الخلد إلا من تدفقه ..!؟
تحتاج نصوص الأستاذ المبدع ناصر الجاسم لوقفات طويلة وبحث أكثر وباستحقاق وجدارة.. 


عبد الباسط العباسي.
بغداد .8/3/2017

TAG

ليست هناك تعليقات

إرسال تعليق

I am happy to read your opinion or suggestions

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *