الصراط- قصة قصيرة- ناصر الجاسم

الصراط

إلى الرفاق الستة في رحلة العطش.

البحر لا رائحة له، فالصيف لتوه قد رحل ورحلت معه الأسماك إلى قاع الخليج ، سرب نوارس سوداء لا صوت لها يحاول الانضمام إلى سرب آخر يسبقه في الفضاء الأبيض، الحافلة الصغيرة التي تقلهم تقطع بهدوءٍ حذرٍ الشريط الساحلي الأخضر سائرةً بهم نحو الصراط للعبور إلى الضفة الأخرى من الخليج، كانت آخر مشاهد العذاب الخارجية التي سجلتها كاميرا الفيديو التي يطل عنقها من إحدى نوافذ الحافلة وتدور عصاها بيد واحد منهم حفنة من النساء المتشحات بالسواد جالسات قبالة الخليج الهادئ على سجادة طويلة من الحشائش الخضراء الرطبة يرقبن عبث أطفالهن ومراهقين يقودون سيارات مكشوفة للأعلى تنطلق منها إلى الفضاء الأبيض أغنيات شعبية حزينة، وحين عادت كاميرا الفيديو إلى داخل الحافلة سجلت آخر مشاهد عذابهم الداخلي وقد كان ست نكت حول النصف الأسفل من الجسد انطلقت من أفواههم الستة فرصدتها كاميرا الفيديو في لحظتها ، كل الذين بداخل الحافلة يمنون أنفسهم بعبور سريع للصراط، كانوا يخشون ملائكة العذاب اللذين ينتظرونهم لوزن أعمالهم الماضية وفحص هوياتهم، ومن ثم السماح لهم بدخول جنتهم الموعودة، طوابير عدة تنتظر دفع رسم الدخول الثاني لتنزل منزلا في الجنة وكانوا مع المنتظرين حتى كلت أردافهم على المقاعد ونفدت نكتهم ونفد آخر مرح حملوه معهم، الازدحام يفقد الطوابير السائرة على الصراط نظامها ويفقد الركاب وقارهم، فشاب أسود يحتج على الوضع السيئ بترقيص مؤخرته الكبيرة من غير نغم أمام أعين العابرين هازئاً بهم، وفتاة عذبة اللمى تجدها فرصة مواتية لأن تفتح علبة مكياجها لتبدي زينتها من خلال مقصورتها في السيارة المتوقفة منتظرة عزل العابرين فيها، ودرويش من الدراويش يترجل من حافلة نقله ويكشف على صناديق الخضار والفاكهة ليتأكد من سلامتها من التلف، وشباب عابثون يطفئون محرك سيارتهم على الصراط وينزلون في جزيرة صناعية ناهضة عليه ليلعبوا الورق بحماس يترجمه الصراخ، وسائق سيارة اللبن ينام في مقصورة القيادة غير عابئ بشيء ، وسائق سيارة الخبز يدندن بأغنية محمد عبده يا ليل خبرني عن أمر المعاناة ، لم يدروا كيف تحركت الطوابير على الصراط وانتظمت في سيرها من جديد، فجأة وجدوا أنفسهم عند البوابة الأخيرة للعبور، ومن فورة بهجتهم بالوصول نسوا استرجاع الباقي من رسم التأمين على حافلتهم من الجابي.

الجنة الموعودة طرقها سالكة مضيئة منظمة، الخانات والحانات كثيرة فيها، والنساء بعدد الأشجار في الطرقات، فيها عين جارية تسقى البعيدين عنها ولا تسقي القريبين منها، وفيها نخل وزرع كريم وحب وزيت وطحين وحلوى مما يشتهون..

دخلوا خاناً ليس كخانات بلادهم، خان بداخله حانة، جلسوا على الأرائك ينظرون، والحور العين أمامهم يصطفون ويرقصون، والشراب يطوف عليهم به طائفون ، ولحم طير حولهم مما يتخيرون..

قال قائل منهم: أصحاب هذه الجنة يملكون كل شيء، فماذا أنتم مالكون؟

أخذوا عن السؤال يجيبون وعلى الورق يسجلون..

1- مالك التميمة

إنني أملك جناً يمتصون آلام السحر من جسدي وآلام عين شريرة أوقفت حركة أصابعي، إنهم الآن يدلكون ظهري ويمسدون كتفي، وسيعيدون إلى حبيبتي المسحورة منذ خمسة أعوام، وهم الآن موكلون بحراستي وحمايتي فإياكم أن تسيئوا إليهم، دعوهم يمارسون عملهم الجليل من خلال هذه التميمة المكتوبة بماء الزعفران والراقدة في محفظتي ، وطالما التميمة معي فستنجون من ملائكة العذاب الذين على الصراط واقفون يفتشون، سنعبر من غير تفتيش ولن يصادروا منا أي شيء نحمله معنا حتى ولو كان إحدى الحور العين، فثقوا بقدرة جني الطيبين المخلصين، إن ما يشغلني حقاً أنني إذا ضاجعت امرأة من نساء هذه الجنة فسيبطل مفعول تميمتي، وستفسد قوتها وتذهب عني حمايتها، وسيتمكن مني أعدائي، ويسحرونني من جديد، عدا ذلك إنني أخشى أن أموت وهي معي فلا أشم رائحة جنة الآخرة أبداً، إنني أتساءل كثيرا: هل يجوز أن أصلي بها؟.. هل يجوز أن أذهب بها إلى الحمام؟. هل يجوز أن أستحم بها؟ لأنني أخاف عليها من الضياع وعلى نفسي من السحر ذهبت إلى سوق الذهب وطلبت من أحد الصاغة أن يصنع لها غلافاً من معدن وربطتها بخيط أسود وعلقتها على رقبتي كما يفعل الأفارقة السود مع تمائمهم، وكما يفعل المسيحيون مع صلبانهم، إنها يا رفاقي تبدو كالشفرة التي تسجل كل حركاتي وسكناتي وأقوالي ويستدل بها من كتبها لي على شخصيتي.

2- مالك القبر

إنني أملك قبراً في مقبرة الدمام ، حفرته لي بيدي هاتين المسمرتين، فأنا لا أثق في من سيحفر لي قبرا بعد موتي ، فقد يكون لصا من لصوص الوطن الكثيرين أو زانيا أو لوطيا أو أي شيء آخر لا أريده، ثم إنني لا أود أن يؤجر أحد على رمل يزيحه لتواري جثتي بداخل قبر قد حفره، قبري أزوره كل أسبوع، أنظفه من براز الكلاب ومن الجعلان الميتة بداخله وأردم جحور الضبان التي اعتدتْ عليه، أضع سماً للعقارب التي تغزوه من حين إلى آخر للتزاوج فيه، أقيسه على جسدي بين حين وحين، فإذا زاد وزني زدت في مساحته، وإذا نحفت عملت على أن ينحف قبري مثلي، هو لي كالثوب الذي ألبس، كالسرير الذي أتمدد عليه، أحج إليه في الليالي المقمرة من كل شهر، أتمدد في جوفة وأنظر من مكاني فيه إلى القمر والنجوم الساطعة وأكتب على ضوئهما قصيدة القبر التي أنفقت عامين من عمري لأجل أن أتمها فلم تتم:

موتانا ليسوا كالموتى الآخرين

إنهم ميتون قبلما يولدون

إنهم منذ الطفولة يرددون:

(إنا الله وإنا إليه راجعون)

في المهد وفي اللحد ينطقون:

(يا ليتنا لم نكن ضالين)

نزني في محارمنا ونقول :

( استغفر الله العظيم)

(أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)

إننا جائعون يا أصدقائي للون السكر وألوان خدود الإناث، لم نعد قادرين على التفريق بين اللون الأسمر واللون الأزرق في زمن صار الماء فيه أسود، في ظلام البار نفعل كل شيء، نتبادل البغايا كطوابع قديمة، ونردد آيات العذاب، وفي زمن اللواط المطور لواط الأزواج بالزوجات، والذكور بالإناث لا أجد من أنكح سوى يدي الراعشة والصراخ في ليل المقبرة والأموات يسمعون: الكرز الكرز ، مؤلم يا أصدقائي أن يأكل قومي الجراد في زمن اللحوم المجمدة.

3- مالك الإشعاع

إنني أملك ما ولن تملكوا، أملك هاتين العينين المشعتين، وهذا سر لو درى عنه علماء الوطن لأفتوا بفقء عيني الفريدتين، لأنهم سيخشون كشفي عورات حورنا العين، وما أجمل العورات في هذه الجنة الصغرى، إنني أرى ما تحت ثياب الحور العين الراقصات هناك في ملعب الرقص، فتلك الطويلة موشوم على ردفها الأيمن وشم أخطبوط، وعلى ردفها الأيسر وشم صرصار، أما القصيرة المكتنزة فشعر عانتها الأسود أشبه ببيت العنكبوت، ويقف على نهد الشقراء التي تطلبكم تطويق نحرها بالورد حبة خال سوداء، وأنتم في الوطن يا رفاقي لم تتمكنوا منذ قرن ونصف مضيا من رؤية وجه امرأة، لذلك أنا خائف من أن ينكشف سري وأصبح كالشاعر الذي يقول:

  يا جديع مشكاي خان الدهر بي  **   عقب الستر كل الخلايق دروا بي

لذلك فأنا حريص على أن لا أنام في الطرقات، أو في بيت غير بيتي؛ حتى لا يأتوا ويصلوا عليَّ صلاة الميت فأخسر ما أملك، لهذا تجدونني دائماً صامتاً وأسجل جمال ما أرى في قصائدي ، ولكن ما يؤلمني حقا أنني حين أسلط عيني المشعتين على جسد امرأة لا أدري هل هي من محارمي أم لا ؟

4- مالك الصوت

إنني أملك صوتاً جذاباً سحرياً، لست مغنيًا ولا طيرًا شاديًا، ولا آلة موسيقية، إنما لي صوت يأخذ بألباب الإناث والذكور، فيعشقونني كلهم وأعشق بعضهم ، إنني أتساءل كيف تكون الفتنة في الصوت؟! كيف يستطيع صوتي أن يعري فتاة في غرفتها من خلال سماعة الهاتف؟! ويجعلها تبكي وتنشج وتشخر وتزفر دونما حضور لجسدي مع جسدها، وتطلب الطلاق من زوجها لأتزوجها بدلا منه، إنني كل ليل أمكث الساعات الطوال أمام الهاتف باديًا كطفل يرضع ثدي أمه لينام، محارم ورق حول سريري ومحارم ورق حول أسرتهن، أضرب سماعة الهاتف بعضوي وأحكها ليسمعن صوت ارتطامه واحتكاكه ممزوجاً بصوتي، ويعركن صدورهن بسماعة الهاتف لأسمع صوت عركها ممزوجا بأصواتهن وتأوهاتهن، وينزعن ثيابهن الداخلية ويضربن أفخاذهن وإلياتهن بأيديهن ليضطرب قلبي فتبتل محارمي ومحارمهن، يكتبن رقم هاتفي على  جدران حماماتهن في المدارس والكليات والجامعات وعلى دفاتر واجباتهن ومحاضراتهن مسبوقا بعبارات دعائية جاذبة مثل :

إذا أردتِ الراحة الجسدية اتصلي بصاحب هذا الرقم.

هاتفي صاحب هذا الرقم لطرد البرود من جسدك.

الحرارة في صوت صاحب هذا الرقم وليست في الجو. 

إذا لم يثرك صوت زوجك فهاتفي صاحب هذا الرقم.

لا وجود للملل وللكآبة وللضيق مع صوت صاحب هذا الرقم.

إنما يشغلني حقاً ليس تعلق الإناث بصوتي إنما تعلق الذكور به، أولئك الذكور اللذين تدربوا الرقص على أيدي راقصات في أقطار أخرى، ثم أخذوا يضعون الحلق في آذانهم، و يلبسون ملابس الإناث الشفافة الضيقة، و يدهنون أردافهم بالكريمات المنعمة للبشرة والقالبة لونَ الجسد، ويعطرون أدبارهم بالعطور، إنهم يطلبون أن يحملوا مني ،وأن أتزوجهم، وأن أملكهم وأنا لا أستطيع إلا حب الإناث فقط.

5- مالك العَرَق.

إنني أملك خمرًا وفي بلدي يسمونه العَرَق، أصنعه من التمر والفواكه والماء، أدفنه  في براميل نفط خالية في كثبان الدهناء وكثبان النفود ليتخمر على لهيب شمسنا الحارقة، أتركه يمكث في جوف الأرض شهوراً حتى يعتق، وإذا حل الشتاء أظهرتُ خرائط تحديد مواقعه في الصحراء، هي خرائط لحقول عرق وليست خرائط لحقول ألغام، فلا تبلغوا لجنة حقوق الإنسان التابعة لهيئة الأمم المتحدة، وبعدها أظهره وأحمله وأدخله مصفاتي الخاصة وأتذكر المثل القائل :( لا تضمها إلا بعد السؤال عن أمها)، فأبدأ الإخلاص في عملي في مصنعي السري، أوقد المواقد وأركب عليها القدور العظيمة فأتخيل نفسي ساحرًا يقدم لجنِّهِ القرابين، ثم أبخر خمري على نار هادئة حتى يصفو وينقى فتراه عيون السكارى في شوارع البطحاء الخلفية نبيذاً أبيض وليس خمرا مغشوشا،ً فيعرفون حينها أنني أمه التي حرصت على ضمه، إنما يشغلني حقا أن زبائني يموتون بعد سنين من شربهم عرقي بتليف في أكبادهم، وأنني أراهم وأنا أطوف عليهم بالقوارير يحكون ظهورهم بالجدران ، وأنني أسمع بين الحين والحين أنهم قد طلقوا نساءهم وفقدوا وظائفهم.

6- مالك الحافلة

إنني أملك حافلة ولكنها تبدو بالنسبة لي بيتاً من حب وغزل وحنان، أدور بها – لأنني سائقها- على بيوتهن عند ذهابهن من منازلهن وعند إيابهن إليها، لست عازباً وسيماً إنما أنا متزوج ولدي أطفال وهن يعرفن ذلك كله، ومع ذلك يوجد بينهن زينب التي تصعد الحافلة بزيها المدرسي ويدها تحمل منديلا لفت فيه أعواد ريحان مغسولة  معطرة، ويوجد بينهن بتول التي تصعد الحافلة ويدها تحمل إصّاً وضعت فيه وروداً حمراء وصفراء وبيضاء نقعت جذورها في ماء، ويوجد بينهن حوراء التي كتبت فيَّ قصيدة غزل وبعثتها مع رسم نقلها في ظرف ختم بأحمر شفاهها، وسكينة التي تُكحل عينيها بكحل جذاب يصرف عيني عن النظر في الطريق إلى النظر في عينيها من خلال مرآة الحافلة الداخلية التي تعلو رأسي، القرآن أضعه فوق مقصورة القيادة أمامي ويرونه عند الصعود وعند الهبوط ولكن إذا أردن الصعود يحاولن أن يرينني بدايات نهودهن الفارة من جحيم حاملات الصدر، وإذا أردن الهبوط يحاولن أن ينثنين قليلاً ليتبدى لي حدود ملابسهن الداخلية وهي تطوق أردافهن، إنني أتساءل: لماذا تصر رقية على الفوز بالجلوس في المقعد الذي يلي مقعدي؟! ولماذا تتجادل مع زهرة على هذا المقعد وتتذرع بحبها للجلوس بجانب النافذة وتطلب تدخلي للوقوف بجانبها؟! ولماذا تبث رقية أنفاسها الحارة من خلف نقابها لتداعب بها رقبتي وأنا أسوق؟! ولماذا أقف عند بيتها والمبخرة تحملها مع حقيبتها وإذا صعدت الحافلة أشعلت بقداحة سجائر وضعتها في حافلتي خصيصاً لهذا الغرض البخور وجلست؟!  أتذكر مرة أنني أصبت بكحة جارحة قلقلت أضلاعي فقالت خولة بعد توقف النوبة السعالية: ( بسم الله عليك إن شاء الله في أعدائك)، وقامت خوداء لتركض من آخر الحافلة ببرادة ماء وتفتحها وتسقيني ثم تقول: ( شراب الهنا جعل مداخيله العافية، هشه وإن شاء الله غصه في صدر العدو).

إنني أعرف حركة سوق العطور في الوطن من خلال حافلتي، فأي عطر جديد يصل إلى الوطن يصل إلى حافلتي من خلالهن، وأي عطر ينتهي استعماله في الوطن ينتهي استعماله في حافلتي، أعرف كل واحدة منهن رغم السواد الذي يجللهن، إما بعطرها، أو بتقاطيع جسدها التي تعجز العباءات عن طمسها، أعرف من حملت منهن؟ ومتى ستلد؟ وكم عمر ابنها الأول وعمر ابنها الثاني و عمر ابنها الثالث وأعرف أسماءهن، وحين أنادي بعضهن بأسماء أزواجهن ينزعجن ويطلبن نداءهن بأسمائهن أو بأسماء أبنائهن، إنني أحبهن لا شك في ذلك، وأحب وظيفتي لأنها تجعلني قريباً منهن، وأحس أنني ديك وأنهن دجاجاتي فيجب أن أحميهن من كل الديوك التي تسير في الطرق، ولأجلهن أصون حافلتي صيانة مستمرة وأهتم كثيراً بجهاز التكييف، ولكن رغم ذلك كله أخاف منهن، وأخاف من وظيفتي، ولا أدري لماذا؟!.

قال قائل منهم بعدما أجابوا عن مايملكون: ماذا أنتم الآن صانعون؟

قالوا بأصوات ستة يأتي بعضها بعد بعض: إننا عائدون.. عائدون.. عائدون.. عائدون..   عائدون..   عائدون..   

ناصر سالم الجاسم

20/2/2000